سيميائيات في ديوان ( الغيم والدخان ) للشاعر الأكاديمي محمد حلمي حامد .

دراسة نقدية بقلم ا د صبري ابو حسين أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بجامعة الأزهر

 

قليلة هي التجارب الشعرية التي تمثل سيرة شعرية ذاتية خاصة، وأقل منها أن نجد ديوانًا كاملاً، يصممه مبدعه ليكون سردًا شعريًّا ذاتيًّا، ويقصد إلى ذلك قصدًا عبر الزمان والمكان والإنسان، خلال سني حياة مبدعه وحركاته وتنقلاته ومشاهداته ومعاناته ومعاركاته. إنه ديوان(الغيم والدخان) للشاعر الأكاديمي محمد حلمي حامد، الذي رزقت صحبته وشرفت بطلب اللجنة الفكرية باتحاد الكتاب- عن طريق رئيستها شاعرة الوادي نوال مهنى- بأن أشارك في الحلقة النقاشية حوله يوم الثلاثاء1/11/2022م، بصحبة الحبيب الدكتور بسيم عبدالعظيم، والناقدة الكبيرة الدكتورة عزة بدر، وبحضور جمع طيب من المثقفين والمثقفات!
وهذا الديوان يقدم له ويعرض في المقالات المعرفة به في مواقع الشبكة العنكبوتية على أنه يعد أنموذجًا عاليًا لهذا الإبهاج الفني الطريف، المتمثل في الإبهاج بالسرد الذاتي الشعري، يقول مبدعنا الأكاديمي: هذا الديوان:”سيرة شعرية حافلة بالسرد والحكايات الصغيرة لي، تجسد فترة من حياتي حيث مواقف وصور وأخيلة مررت بها وشاهدتها في طفولتي وصباي التي تصف أحوالا عشتها في البلاد خلال فترة الستينيات… وأحكى فيها ذكرياتي في بيتي بالسيدة زينب وانتقالي للعيش فى أحدى قرى الريف، وحكاية أبلة فضيلة فى الصباح، وحكاية صاحبي اليتيم عن زوج أبيه، ثم أصف فيها الواقع المصرى السياسى وقتها ودعم الثوار فى كل الثغور، حتى يأتى الجزء الأهم فى السيرة وهو اصطدامي عندما كنت طفلا بنكسة يونيو 67 ومشاهدة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يتنحى ومشاهد من الهزيمة وعودة المنسحب، وعلاقته بأسرته زوجه وبنيه وماذا يدور في مخيلتهم نحوه، وحالات الزواج المعلق بسبب انتظار الجنود على الجبهة والشهداء وتصوير فنى لنصر العاشر من رمضان:…وهناك قصائد أخر تمثل شاعرنا في مراحل حياته المختلفة من مراهقة، وبلوغ، ونضج! وإن متابعة لهذا الديوان في شكله ومضمونه يوقفنا على جملة ثنائيات تنتظمه، وسأقف عليها عبر مقاربة سيميائية للمحطات والعتبات الآتية:
عتبة الغلاف:
ـــــــــــــ
مبدع هذا الديون أستاذ في فن التصميم، وقد قرر في الغلاف الداخلي أن (تصميم الغلاف: التنسيق والإخراج له)، ومن ثم فإن الوقوف مع غلاف الديوان الأمامي وقفة وصفية تحليلية ضرورية؛ فقد اختار شاعرنا لوحة للفنان الفرنسي يسمى(مارك شاجال)، كتب اسمه في أعلاها، وكتب عنوان ديوانه فيما قبيل آخرها مذيلاً بالنوع الأدبي المهيمن على الديوان(سيرة شعرية)! وبقراءة المجموع اللوني فيها نجد اللون الأزرق بدرجاته (الفاتح/الداكن/المتوسط)، يغلب على الغلاف، كما نرى حضورًا هامشيًّا للألوان: الأبيض والأخضر والأصفر والأحمر الفاتح! وفي اللوحة حمامتان على غصن شجرة في حالة عناق، وسماء ذات سحاب أبيض وقمر في درجة الهلال أو المحاق! وبقعة سوداء، وكأني بالمبدع يريد أن يقول إنه في هذا الديوان واضح وضوح اللون الأزرق، وتعتريه لحظات ضعف أو غموض كهذه الألوان الباهتة الخافتة الحاضرة حضورًا قليلاً، وأظن أن السماء وما فيها من السحاب يشير إلى مفردة(الغيم) في عنوان الديوان، وأن البقعة السوداء تشير إلى الدخان، وأن الحماتين تشيران إلى أن الرومانسية هي سبب الحياة، وفي شكل القمر دلالة على الأصل والمرجعية التي تكاد تتوارى! والنبات حاضر حضورًا هامشيًّا، وكأن كل شيء جميل نافع في سني الشاعر ومحطات حياته كان هكذا! في صغر وخفوت وضعف!
أما الغلاف الخلفي فقد جاء في إطار أزرق يتوسطه اللون الأبيض، فيه كلام نثري يعين القارئ على تحليل الديوان وفهمه! يقول:” يصعد الغيم والدخان من الأرض إلى السماء صعود الروح من الجسد، يصعد الغيم بالطيب فيحمل الماء وقد يعود به إلى الأرض بالبرق والرعد، أما دخان الحرائق والحروب فقد يقتل مثلهما، بينما يقبع الرماد بلا حراك، إنهما كالخير والشر، يصعدان ويتحركان حتى يختفيا بلا أثر. وكأني حين أصف حياتي التي عبَّرت عنها شعرًا أجد محصلتها قد طارت في الفضاء بلا أثر، كغيمة أصابت أو كدخان عبر، هذه حكاية قلب تفتحت عيناه وعايش المد الاشتراكي والنكسة وتنحي عبد الناصر وعبور رمضان وحروب لبنان، تنامي المد الديني، سطوة الحب ورسائله، رثاء الآباء وصحبة الأصدقاء حتى ثورة 25 يناير، سيرة شعرية مضت بين الغيم والدخان” .وهذا النص يعد (النثيرة الختامية للديوان)، وهو بلا ريب يعد حاملاً الخطوط الرئيسة والعناوين العريضة لرؤى الديوان وأطروحاته، والتي سأمتحن مصداقيتها في قادم العتبات والمحطات…
عتبة العنوان الرئيس:
ـــــــــــــــــــــــ
(الغيم والدخان) مركب اسمي قائم على أسلوب العطف بين مفردتين، تعطف الواو بين(الغيم) و(الدخان)، وواضح أن (الغيم) أول، و(الدخان) ثان، ولعل هاتين المفردتين تمثلان الثنائية الكبرى التي تهيم على الشاعر في تجاربه الستين، والستينية!
إن(الغيم) هو السحاب، والجمع غيوم وغِيام، وهو مصدر للفعل(غام)، يقال:غامت السماء تغيم غيمًا أي غطاها الغيم، وغام فلان إلى الماء غيمًا أي اشتد عطشه فهو غيمانُ! ومن مفاهيمها العلمية “مَجْمُوعة ذَرّات مِن المَاء دَقيقة جدًّا، سَائلة أو جَامِدة، تَبْقى عالِقة في الفَضاء بفَضْل تَحرّكات الهَواء العَموديّة”، أو هو “كُلّ كُتْلة كَثيفَة أَو ذَرّات دَقيقة مُتَراصّة تُشبه الغَيْم فتُغَشِّي البَصَر وتَحْجبُه”، فالغيم عنصر كوني سماوي عال، يقترن بالماء والطيب والغيث والنفع، وله أثر على البصر!
ومفردة(الدخان) تعني ما يتصاعد عن النَّار من دقائق الوقود غير المحترقة، وفي القرآن الكريم: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخّانٍ مُبِينٍ{، وتطلق كذلك على التبغ، ويقال: كان بينهم أمر ارتفع له دخان أي شر مستطير، ويقال: هدنة على دخَنٍ أي صلح على فساد باطل…فالدخان أثر النار، وقرين الشر والفساد…
وبمطالعة القصيدة الأولى(كنت هنا)، القصيدة المفتاح في نظري للديوان كله، نلحظ حضور ثنائية(الغيم/الدخان) في النص كله، يقول شاعرنا: [فأنا كنت هنا/خطوتي كانت هنا/غيمة في الروح/عاشت في ردائي قرب تلك السوسنة] فالغيم هنا براءة ونقاء وفطرة وطيب وخير ونفع وعطاء، وتفاعل إيجابي مع الطبيعة الوادعة(السوسنة)!
وفي القصيدة ذاتها نجد مفردة (الدخان) تحضر في قول شاعرنا:[كنت والدنيا هنا/عندما تغلق أبواب السماء/ليس في كفيك خبز للعشاء/ليس إلا نفثة الدخان تذوي/عبر أحجار الجدار/وصفير الريح يعدو/ خلف دقات القطار/وصرير الباب يعلوه الغبار]…فالدخان هنا شر وفقر وخطر ومرض وأذى، وضرر وضرار ووبار وتعامل سلبي عدائي مع مفردات الطبيعة الحادة من الريح والغبار!
ومن ثم نرى أن هذا العنوان الرئيس يشير إلى الثنائية المهيمنة على تجارب الديوان(الصعود/الهبوط)، (الخير/الشر)، و(العطاء/الإيذاء)، إنها ثنائية قلب تفتحت عيناه وعايش المد الاشتراكي والنكسة وتنحي عبد الناصر وعبور رمضان وحروب لبنان، تنامي المد الديني، سطوة الحب ورسائله، رثاء الآباء وصحبة الأصدقاء حتى ثورة 25 يناير… يتخلل ذلك منزع رومانسي روحي حينا وشهواني حينا، إن عنوان الديوان دال على أيدلوجية الشاعر الأبولِّية المتسامية بشكل شعري واضح صريح، وليس إلغازيًّا غامضًا، إنه سرد للحياة وما فيها من معاناة وأزمات وانتصارات وانكسارات، سرد لعلاقات الذات بالآخر:أسرة، وزملاء وأعداء، وعلاقات بالمكان صعودًا وهبوطًا، وبالأمة عدوانًا وانكسارًا…فحياة الشاعر والحياة في الديوان(غيم ودخان)!
عتبة النَّثِيرة الافتتاحية:
ــــــــــــــــــــــــــــ
افتتح شاعرنا ديوانه بفقرة نثرية فيها شعرية خاصة، نصها:” حين تَجيء الأغنيةُ القديمةُ، من جوفِ المحارةِ المُغلقةِ، صدئةً كالقُفل الذي أغلقتُ به قلبي على حكايات الصِّبا، يكون الحبُّ اليائسُ والفاشلُ..الفرحُ الميتُ واللقاءُ المستحيلُ كذِكرى بسيطةٍ…كوردةٍ رقيقةٍ، تمتدُّ لتقذفَني في بحارِ النَّشوةِ”؛ فالشعرية تظهر في التراكيب الوصفية البانية للنص، وهي:(الأغنية القديمة/المحارة المغلقة/الحب اليائس والفاشل/اللقاء المستحيل/وردة رقيقة)، وفي الصورة التشبيهية:( صدئةً كالقُفل الذي أغلقتُ به قلبي على حكايات الصِّبا)، و(كذكرى بسيطة/كوردة رقيقة)، وهي دالة على رومانسية المبدع وأبولُّويته، إضافة إلى أن التعميم في عبارات النص مقصود من المبدع؛ لتذهب نفس الجمهور في تَلَقِّيه كل مذهب، فما الأغنية؟ ولم هي قديمة؟ وما المحارة؟ ولم هي مغلقة؟ وما القفل؟ ولماذا أغلق به قلبه؟ وما الحب ولماذا هو يائس فاشل؟ وما الفرح ولماذا هو ميت؟ وما الذكرى؟ وما بحار النشوة؟! أسئلة كثيرة تفرضها هذه الافتتاحية لا تقل عن أسئلة الغلاف والعنوان الرئيس! ولعل في مفاتشة تجارب الديوان ما يقدم إجابات عن هذه الأسئلة! فعتبات الغلاف والعنوان الرئيس والافتتاحية مثيرة ودافعة إلى مطالعة الديوان لما فيه من غموض لذيذ، وتجريد جاذب!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.