يحكي لنا القرآن الكريم قصة الاختلاف بين البشر في الشرائع والأديان , وكيف وقع هذا الاختلاف ؟ وأثره الشرائع والأديان ؟ قال تعالي (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين اوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاء إلي صراط مستقيم ) (البقرة : 213) يقول ابن كثير والمعني : كان الناس أمة واحدة متفقين علي الهدى , فقد لبثوا حوالي عشرة قرون من بعد آدم عليه السلام حتى أضلتهم الشياطين فعبدوا الأصنام وإختلفوا بين مؤمن وكافر , فلأجل ذلك بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب السماوية مشتمله علي الحق الذين لا شك فيه , ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه , ثم اختلفوا بعد ذلك حول الشرائع نفسها فأنكروا بعضاً منها حسداً وطلباً للرياسه علي حد قول ابن كثير وذلك في قوله تعالي ( بغيا بينهم) ومن جملة ما اختلفوا فيه أيضا هو بعثة محمد صلي الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالي (وما اختلف فيه) أي محمد صلي الله عليه وسلم إلا الذين أوتوه (الكتاب) التوراه والانجيل , وذلك لأن كتبهم بشرت به عليه الصلاة والسلام قال تعالي (وإذا قال عيسي ابن مريم يا بني اسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراه ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) (الصف : 6 ) إشارة إلي أن هذا الانكار للحق لم يكن إلا من بعد ما جاءهم العلم وهذا هو الاختلاف المذموم الذي يكون عن علم بخلاف الاختلاف حول قضية غامضة لم يظهر فيها علم بعد أو لم يوجد عليها دليل قاطع أو نص .
ومن الغريب أن تلك الأمم قد مارست هذا الاختلاف المذموم حتى ضد أنبياءهم عليهم السلام قال تعالي ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله اليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ) (الصف : 5) وهذا النوع من الاختلاف قد سماه القرآن الكريم زيغاً وحياداً عن الحق ولذلك كان الجزاء من جنس العمل فأزاغ الله قلوبهم عن الحق فلم يهتدوا إليه وضلوا عنه , وكان من جمله ما ضلوا عنه ذكره ابن كثير في التفسير قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (اختلفوا في يوم الجمعة وهدينا اليه , واختلفوا في رمضان وهدينا اليه , واختلفوا في القبلة (بيت الله الحرام) وهدينا اليه ,ورزقنا بقول امين ) .
وهذا معني قوله تعالي : فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه .
ولا شك أن كل هذه الشعائر والمقدسات كلها قديمة , ولا يخفى كذلك ما فيها من الهدى والخير والبركة للناس جميعاً , ولكن كان هذا الاختلاف المذموم والزيغ عن الحق بعدما ثبت وتبين ووضح وضوح الشمس في كبد السماء قال تعالي : (الذين اتينهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبنائهم وان كثيراً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون ) (البقرة:146) هذا الانكار كان سبباً في شقاء البشرية لقرون وذلك بعدم الاهتداء لهذه الشعائر والمقدسات بما فيها من الخير والبركة والهدى للناس جميعاً , ولذلك حذرنا الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم من هذا الاختلاف المذموم أيما تحذير وشدد عليه : إذ خرج النبي صلي الله عليه وسلم علي الناس ذات يوم فقال : أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا: فقال رجل أكل عام يا رسول الله :فقال النبي صلي الله عليه وسلم . لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ذروني ما تركتكم انما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي أنبياءهم (متفق عليه) . ومعني (هلك) أي ضل عن الحق فهو هالك لا محالة , وفي رواية فإنما أهلك من كان قبلكم أي كان سبب إهلاكهم هو هذا الاختلاف المذموم فكان سبباً في بعدهم عن الحق وضلالهم والبعد عن الحق فيه ما فيه من المشقة والعذاب وهو يؤدي إلي الهلاك لا محالة.
ونحن إذ نختلف مع الذين يصورون الاختلاف بالمعني السابق وكإنه سنه فطرية أو شرعية مستندين في ذلك إلي
قوله تعالي (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) (هود : 118)
فالمقصود هنا الاختلاف في الرأي أو الطباع او الشكل او اللغة وليس المقصود به الاختلاف في الدين اطلاقاً لان
ذلك انما يأتي علي مادة الدين من اصلها اذ الدين يعني الالتزام والخضوع لله عز وجل فالاختلاف في الحق بعدما
تبين يناقض هذا المعني تماماً .
ويبقي أن يحمل الانسان نفسه علي اتباع الحق لان الحق قديم والثبات عليه أقوي والرجوع إليه أولي ولذلك
يجب علي الإنسان أن يحمل نفسه عليه ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد علي
الفطرة ) (متفق عليه) ومعناه قال ابن خلدون في المقدمة بند 4 الفصل الثاني الباب الأول : إن النفس إذا كانت
علي الفطرة الأولي كان مهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير او شر وبقدر ما يسبق اليها من احد
الخلقين تبعد عن الاخر ويصعب عليها اكتسابه , فصاحب الخير اذا سبقت الي نفسه عوائد الخير وحصلت لها
ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه , وكذا صاحب الشر اذا سبقت اليه عوائده .
( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )