اشتهر الخبير الإقتصادى هايمان مينسكى بتطوير النظرية القائمة على أن الفترات الطويلة من مكاسب الإستثمارات الثابتة تؤدي حتماً إلى تعزيز الرضا عن النفس وهى خطوة تساعد على التشجيع على المجازفة المفرطة ، وهى مجازفة يملؤها الرضا عن النفس وربما الغرور وهو أمر يؤدي في النهاية إلى أزمة أطلق عليها لحظة مينسكى، اى أن هذه النظرية تقوم على أن الإستقرار يولد عدم إستقرار ، او بمعنى أدق غرور الإستقرار قد يصطدم بغطرسة وعناد تؤدى إلى تزايد حالة عدم الإستقرار، هذه النظريه تستحق بعض الإهتمام خاصة في المجال الإقتصادي، وبإسقاط هذه النظرية على بعض الدول المتقدمة مثل الإقتصاد الأمريكي أو الصيني أو البريطاني نجد ان هذه الإقتصاديات تعاني من أزمات إقتصادية متلاحقة بعد ان حققت من الثبات والإستقرار الإقتصادي ما جعلها على راس الاقتصاديات العالمية ، الآمر الذي دفع هذه الإقتصاديات إلى المجازفة المفرطة ومواجهة مشكلات جوهرية تتعلق في مجملها بعملية تحول النماذج الإقتصادية من التحول التنموى المبني على الإستثمار والتصدير إلى إقتصاد حديث يقوم على التحول التكنولوجي وخلق قيمة مضافة أكبر .وعلى الرغم من التحدياخت العديدة التي تعرقل أداء النمو الاقتصادي عالميا بداية من خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي والتي تعاني الآن أسوأ حالة ركود تضخمى منذ اكثر من 50 عاما عبر عنها وزير الخزانة البريطاني الجديد جيريمي هنت فى ان هناك قرارات صعبة قد تشمل زيادة في الضرائب خاصة على اصحاب الدخول العالية ،وكذلك تخفيضا فى الإنفاق العام ، ليعكس هذا كيفية التعامل البريطاني مع التضخم العالمى ، مع الإلتزام بمعايير ومحددات النمو الإقتصادي والإنضباط المالى ، ثم يأتى بعد الخروج البريطاني جائحة كورونا التي ألقت بظلالها على الإقتصاديات العالمية مخلفة ورائها خسائر تقترب من ١٣,٨ تريليون دولار حتى عام ٢٠٢٤ حسب تقرير صندوق النقد الدولي ، ثم تأتى الخلافات التجارية بين دول العالم خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والصين ، وأخيراً الأزمة الروسية الأوكرانية التي ألقت بظلالها على تفاقم أربعة أزمات إقتصادية متوازية ومجتمعة ، تعاظمت هذه الازمات مع تفاقم أزمة التضخم ،وخفض مجموعة اوبك بلس الإنتاج ب ٢ مليون برميل يومياً إعتباراً من أول نوفمبر القادم وهو قرار صعب جدآ خاصه انه جاء في ظل تصاعد حاله عدم اليقين العالمي وإنخفاض معدل النمو الاقتصادي نتيجة زيادة نسبة ضبابية الإقتصاد العالمي، وهو أمر أدى إلى منح الدولار قوة كملاذ آمن ، بالإضافة إلى زيادة تكلفة السلع المقومة به لحائزى العملات الأخرى . وعلى الرغم من كل هذه الصعوبات التي واجهتها دول العالم خلال هذا العام والظروف غير المواتية إلا أن الإصلاحات الإقتصادية التي قامت بها مصر على مدار ست سنوات كانت هى الداعمة نحو تواجد مصر ضمن أسرع ١٠ إقتصاديات نمواً في العالم مع معدل نمو في الناتج المحلى الإجمالي بلغ ٦,٦% وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي. تحقيق مصر لهذا النجاح لم يأتي من فراغ ولكن يمكن بللورة هذا النجاح في التركيز الوطنى على : أولاً: نجاح مصر فى إحتواء المثبطات الإقتصادية الأربعة والتى يأتى على رأسها معدلات التضخم ،الذي من المتوقع أن يصل إلى 12% العام المقبل ثم يصل العام الذى يليه إلى 8% . كذلك النجاح في تحقيق معدلات نمو إقتصادى موجبة رغم التداعيات الهائلة لجائحة كورونا، لتكون مصر من أفضل ثلاث إقتصاديات عالمية تحقيقاً لأعلى معدل نمو إقتصادى، مع توقع أن يحقق الإقتصاد المصري معدلات نمو إقتصادى خلال السنوات الخمس القادمة بصورة أعلى كثيراً من المتوسط العالمى ، اما عن خدمة الدين العام فمن المتوقع إنخفاض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي ليسجل ٨٥,٦٪ العام القادم ليصل إلى ٧٩,٩٪ عام ٢٦- ٢٧ ، وتبقى الإستثمارات الأجنبية أخيرا وهى التى سيعقد من اجلها مؤتمر مصر الإقتصادي هذا الشهر. ثانياً: حزمة المشروعات القومية العملاقة التي دشنتها الدوله المصرية بدأت بالمشروع القومي لتنمية محور قناة السويس لإقامة ٤٠ صناعة كبيرة على ضفتي القناة مع تشجيع الإقتصاديات العالمية الكبرى على تحقيق الشراكة مع مصر من أجل نقل وتخزين وتوطين التكنولوجيا بهدف توطين الصناعة المصرية، ثم المشروعات الزراعية الكبرى مثل الدلتا الجديدة والريف المصري وتوشكى الخير وغيرها بصورة جعلتنا نؤكد بوجود ثورة جغرافية واسعة تتحرك فيها مصر من الإعتماد على زراعة ٩ مليون فدان فقط إلى ١٧ مليون فدان كأساس حاكم فى عملية تحقيق الآمن الغذائي والقضاء على الفجوة الغذائية والحيوانية. ثالثاً : تحسن تصنيف مصر لدى مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية مع الإبقاء على نظرة مستقبلية إيجابية للاقتصاد المصري وتعاظم قدرته على سداد الالتزامات المستقبلية. رابعاً: تحسن مؤشرات التنافسية المصرية. وفي الوقت الذي تتزايد فيه الضغوط على الإقتصاد العالمي بتراجع الإستثمارات العالمية التي أدخلت اقتصاد العالم في دائرة الركود التضخمى، إلا أن الدولة المصرية إستطاعت ان تحدد مسارات متعددة ومتوازية للتعامل مع تلك الضغوط وإحتواء تداعياتها، لتعلن قدرتها على الحفاظ على إستقرار الوضع الإقتصادى عبر تشجيع ودعم الصناعة الوطنية، وتوطين الصناعات، وهو أمر يتماشى مع توجة الدولة نحو تعزيز وإدماج القطاع الخاص في عمليات التنمية الشاملة والمستدامة، مع توفير بيئة إستثمارية محفزة وطرح العديد من التسهيلات أمام المستثمرين . ولا ننسى حرص الدولة على الإستمرار في تنفيذ خططها التنموية ومشاريعها الإستراتيجية الكبرى والتى يأتى على راسها مشروع حياة كريمة الذي يضمن تحقيق النقلة النوعية للفئات الأقل دخلاً والمهمشة، وتمكينها من التفاعل مع رؤية مصر المستقبلية في تحقيق وخلق بيئه أعمال مواتية.
لذلك لم يطلب مستغرباً ما تسعى إليه الدولة المصرية الآن من إيجاد آلية للتوافق على خارطة طريق إقتصادية تضمن بها زيادة التنافسية الدولية والنمو الإقتصادى عبر عدة
مسارات تبدأ أولا: بتقييم موضوعي وكشف حساب لمسار الإقتصاد المصري خلال الفتره الماضية،
وتحديد مدى قدرته على تحقيق المرونة في مواجهة الأزمات الإقتصادية ، مع توضيح للسياسات
المطلوبة لتعزيز قذرة الإقتصاد المصري في مواجهة التحديات والصعوبات. ورسم السياسات المالية
الداعمة لعملية الانضباط المالى ، والإستدامة المالية، وخاصة إنعكاسات الأزمات الإقتصادية على
أوضاع المالية العامة، كذلك آليات السياسة النقدية إحتواء مشكلة التضخم. الآمر الآخر الذي يهدف
إليه مؤتمر مصر الإقتصادي هو تمكين القطاع الخاص في الفترة القادمة مع تهيئه لبيئة الأعمال
لتصبح مواتية لدعم القطاع الخاص وتهيئة بيئة الاعمال ،عبر التدعيم لفرص التمويل الدوليه لدعم
هذا القطاع، مع وضع صندوق مصر السيادي في موضع المشاركة الفعالة مع القطاع الخاص من
أجل ضمان تحقيق التنافسية ، والتركيز على التنمية الاقتصادية بصورة اكبر من النمو الإقتصادي.
الآمر الأخير في خارطه الطريق الإقتصادية للدولة المصرية خلال الفترة المستقبلية تحديد الأولويات
الإقتصادية للقطاعات في برنامج عمل الحكومة.
مستقبل الإستثمار المصري سيقوم على اربع ركائز اساسية تشمل التعليم خاصه التعليم الفني
وقدرة مصر على تطوير هذا القطاع الحيوي لتضمن به تحقيق الإستدامة والإستمرار في تحقيق
معدل نمو اقتصادي مرتفع لمدة لا تقل عن 15 عام. الركيزة الثانية التوجه نحو تقنيات الذكاء
الإصطناعي والتحول نحو نموذج إقتصادي يعتمد على التكنولوجيا ، والركيزة الأخرى هي ضرورة
تحقيق وتوفير الرعاية الصحية المتكاملة لأهم عنصر من عناصر التنمية الشاملة والمستدامة وهو
العنصر البشري، وتبقى الركيزة الاخيرة وهى القدره على توفير الحلول التي تساعد على تحقيق
الاستدعاء فاستغلال الفرصه هو الاساس الحاكم في بقاء مصر ضد اقتصاديات الاعلى نمو في
العالم مستقبلا
كاتب المقال رئيس المنتدى الإستراتيجى للتنمية والسلام