عبد الناصر البنا يكتب : أخى .. وأبطال صنعوا نصر أكتوبر ( 2 : 2 )

عبد الناصر البنا – الفضائية المصرية
هذه واحدة من عشرات بل مئات وآلاف القصص التى تروى عن حرب أكتوبر 73 المجيدة ونحن نجتفل بالذكرى الـ 49 لهذا النصر العظيم . تحدث فى المقال السابق عن بطولات الجندى المقاتل المصرى وعن شجاعة وتضحياته وعن القصص والحكايات التى تحكى فى كل بيت مصرى عن البطولة والفداء وعن الشهداء الذين إرتوت بدمائهم الذكية أرض الفيروز . وعن أخى ” نورالدين ” الجندى البطل المقاتل وقد شارك فى ملحمة النصر
واليوم سوف أستكمل حديثى عن قصة أخرى لواحد من المقاتلين الشجعان ممن حاربوا فى أكتوبر 1973 وكان واحدا من الأبطال الذين حققوا النصر لمصر ، وهو البطل المقاتل ” عمر يس ” صديق أخى وتوأمه ، وهو يحكى لنا عن ” موقعة كبريت ” وهو أحد أبطالها والحصار الذى إستمر لمده 134 يوما بدون طعام أو شراب ، ومحاولات إسرائيل المستميتة إستعادة تلك النقطة الحصينة وظروف إستشهاد المقدم إبراهيم عبدالتواب ” قائد تلك المجموعة ” الذى كان مقربا منه ، وكان فى قلب كل جندى من جنود بالموقع لـ تدينه وشدة إيمانه وحبه لجنوده دون تفرقه .
” عمر يس ” رحمه الله ” الذى رحل عن عالمنا منذ شهرين تقريبا ، كان يحكى لنا ونحن أطفال عن الحرب والبطولات التى حققها المقاتل المصرى فى حرب أكتوبر المجيدة . إسمه عمر يس أحمد ريان من مواليد 1951م فى محافظة قنا التابعة لـ مركز نجع حمادى ـ قريه هًو ، إلتحق بالقوات المسلحة فى عام 1970 بدرجه عريف مقاتل ، وأنهى خدمته العسكرية فى عام 1974 ، وهو حاصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية ، عمر يس كان واحدا من أبطال الكتيبة 603 مشاه أسطول بحرى التابعة للواء 130 ، وأحد أفراد سلاح المركبات ، كان سائق مدرعة برمائية ( حاملة جنود ) ماركة TOBAZ توباز ، روسية الصنع .
يقول عمر يس : كانت مهمة الكتيبة 603 إشغال العدو والتمويه والتصدي له عند منطقة الممرات ، وفى يوم 6 أكتوبر 1973 وفى تمام الساعة الواحدة والـ نصف ظهرا ( قبل العبور بنصف ساعة ) كنا أول القوات إللى عبرت وبدأنا عملية الإقتحام من منطقة البحيرات المره الصغرى تحت غطاء من نيران المدفعية والقصف الجوي المصري ومضينا نحو الممرات حتى نمنع العدو القادم من التقدم إلي سيناء .
وفي يوم التاسع من أكتوبر وفى تمام الساعه 18.30 مساءا صدرت الأوامر للكتيبة 603 بقيادة المقدم إبراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة بإقتحام النقطة الحصينة فى منطقة ( كبريت ) والإستيلاء عليها . النقطة الحصينة في كبريت كانت مقر لإحدي القيادات الإسرائيلية الفرعية ” ولم تسقط فى العبور الأول ” وكانت في المنطقة الفاصلة بين الجيشين الثاني والثالث ، النقطة الحصينة كانت مصصمة لــ تتحمل جميع أنواع القنابل حتي وزن ألف رطل .. وكان يتوفر فيها إمكانات الاكتفاء الذاتي لمدة شهر ويزيد ، وغرفة عمليات جراحية كاملة التجهيز وكميات كبيرة من الأدوية والمعدات الطبية والسلاح .. إلخ
وبالفعل تحركنا في اتجاه كبريت ، ونجحت الكتيبة ٦٠٣ في إختراق كبريت بالمركبات البرمائية ، وأنا كنت سايق واحده منها ، ودخلنا وإشتبكنا مع العدو ، ودمرنا عددً كبير من مدرعاتهم وهجمنا على النقطة الحصينة وإقتحمناها الساعة 21.30 فى نفس اليوم ، وسيطرنا تماما على الموقع والمنطقة المحيطة به وفشلت كل محاولات العدو الإسرائيلى المستميته فى إستعادتها . وبعد 3 أيام من إستيلاءنا علي الموقع عاود العدو الهجوم من أجل إستعادة النقطة ، ولكن محاولاتهم كلها باءت فشلت ، وكنا نقوم بغارات ليلية علي قوات العدو المتجمعة بالقرب من النقطة وأحداثنا بهم خسائر كبيرة جدا وسببنا لهم الرعب .
كانت كل غارة من غاراتنا الليلية تتم بواسطة ضابط وأربعة أفراد فقط ، والحمد لله أننا قدرنا نشيع الذعر بين صفوف الإسرائيليين ، وكبدناهم خسائر كبيرة ، وخاصة بعد مازرعنا كل الألغام التى معنا بإلإضافة للألغام التى زرعوها ، وكانوا عاملين ممرات فيها ، وقدرنا ندمر عدد كبير جدا من مدرعاتهم التى كانت تعوقها الألغام التى زرعناها عشوائيا . وكان الفرق بينا وبينهم أننا بنحارب علشان نموت وكنا داخلين الحرب وعارفين أننا ح نموت ووهبنا نفسنا وتأهبنا لنيل الشهادة ، يمكن علشان قادتنا زرعوا فينا عقيدة المقاتل المصرى القتالية ( النصر أو الشهادة ) وأحنا قطعنا على نفسنا عهد أن لانرجع خطوة واحدة للخلف مهما كلفنا ذلك ، ودا على عكس عقيدة الجندى الإسرائيلى إللى كان بيخاف ويهرب من الموت .
الغارات الجوية الإسرائلية والمدفعية كانت مستمرة ولاتهدأ ، وكانت توجه ضرباتها على موقع كبريت ليلا ونهارا ، تقدر تقول كانت بيقوموا بغاره كل خمس دقائق تقريبا ، وألقوا علينا بالطائرات أطنان من مادة T.N.T ، وتقدر تقول إستعملوا كل أنواع الأسلحة على الموقع والله . الغارات الإسرائيلية المستمرة على الموقع كبدتنا خسائر كثيرة تقريبا فقدنا ( ثلث) أفراد الكتيبة المكونه من 450 جندى تقريبا والمعدات ، إستمرار الغارات أدى لسقوط عدد كبير من المصابين والشهداء ، مكانش لدينا إمكانيات طبية ، وكان قدامنا مشكلة فى كثرة الجرحى والمصابين كان لابد من نقلهم بالبر أو البحر ليلا .. على فكرة كل تحركاتنا كانت تتم بالليل مع آخر ضوء وفى النهار كنا نختبىء فى الحفر البرميلية التى حفرناها وفى الخنادق . أطبق العدو حصاره علينا ومع إستمرار الهجمات فقدنا الكثير من التموين والمؤن الخاصة بنا ونفذت المياه مننا .. فى البداية كنا نروى عطشنا من قطرات الندى التى كانت تتجمع على الزلط ، ولكنها لم تكن كافية لتروى ظمئنا ، إضطرينا لـ شرب مياه الردياتير من المركبات .
ومن هنا طرأت فكره تقطير المياه التى حكى لنا عنها وقال : عرض علي زميلى ” فتح الباب ” إبن أسوان فكرة تقطير المياه عن تطريق تكثيف البخار التى درسناها فى المدارس الثانوية الصناعية ، وبعد تردد لعدم وجود الأجهزة المعملية ، تحمسنا للفكرة من جديد وقمنا بتنفيذها من خلال “جركن حديد” قمنا بملأه بالمياه المالحة بعد توصيله بجركن آخر بواسطة ماسورة حديد ، وقمنا بتسخين المياه بالفلنكات الخشبية التى تبطن الساتر الترابى للنقطة الحصينة ، ثم قمنا برش المياه على الجسم الخارجى للجركن الثانى الذى يتجمع فيه البخار فيتكثف ويصبح ماء ، ونجحت الفكره ، وبهذه الطريقة تغلبنا على مشكلة قلة الماء ، ليظل الجميع على قيد الحياة طوال فترة الحصار .
ويقول : كانت العقبة فى إحضار الماء المالح ، بنفس خطورة إحضار الفلنكات ، العدو كان مترصد لنا ومستهدفنا طول الوقت ولم ييأس ولو للحظة واحدة فى محاولات مستمينه لـ إستعادة الموقع . لدرجة أنهمم كانوا يضربونا بقنابل “خلخلة الضغط ” ، تلاقى الواحد من زملاءنا ميت والدم بينزف من كل الفتحات الموجودة فى جسمة نتيجة لـ خلخلة ضغط الهواء . يصمت عمر يس برهه ويضحك وهو يقول : إسرائيل كانت تعتقد بأن القوات المحاصرة فى كبريت تمتلك أحدث الأجهزة لتقطير المياه .
والطريف أنه بعد مباحثات الكليلو 101 ، وفض الإشتباك ، أتذكر أن قوات الأمم المتحدة الـ ( UN ) دخلوا علينا الموقع ، وطلبوا مياه للشرب ، ومكانوش مصدقين أننا لانملك أجهزة تقطير مياه إلا لما شربوا وشافوا بعينهم إحنا بنعمل إيه . على فكرة تسليحنا كان تسليح خفيف ( رشاش بورسعيدى ) ، ومكانتش معداتنا كافية لصد هجمات العدو أثناء الحصار ، وبعد شهرين من الحصار فشلنا في إستلام إمدادات ، ومكانش قدامنا حل غير أننا نجمع أسلحة النقطة الحصينة إللى تركها الجنود الإسرائيليين وهما بيهربوا مننا ، وقام الظابط (جابر شعرواى) بعمل صيانة لها ، وإستعملناها مرة تانية .
وتحدث عن ” رحلات الموت ” وقال : من أجل أن نعيش كنا نتسلل بالقرب من تمركز العدو ونجحنا فى العبور 3 مرات ، وزودتنا اللنشات ببعض المعلبات والبسكويت وبطاريات لجهاز اللاسلكى ، ورموز فك الشفرة ، لكن الإسرائيليين مكانوش عاوزين يسيبونا فى حالنا ، وكانوا يطلقوا دانات مدفعية مضيئة ويتعقبوا اللنشات لدرجة انهم كانوا يوجهوا الضربات على الكراتين الملقاه على الشط .. وبعدها فشلت تماما محاولات العبور .
وعندما جاء ذكر القائد البطل المقدم إبراهيم عبدالتواب قائد ملحمة كبريت توقف عن الكلام وطلب قراءة الفاتحة على روحه الطاهرة وقال : وهو يجهش بالبكاء فى تمام الساعة 9.50 دقيقة من صباح يوم ١٤ يناير ١٩٧٤ إستهدف المقدم إبراهيم عبدالتواب بدانة مدفع هاون عيار 81 مم وهو ممسكا بنظارة الميدان ، وفاضت روحه الطاهرة ليكون آخر شهيد فى حرب أكتوبر 1973 قبل وقف القتال وفض الإشتباك ومحادثات الكيلو 101 . يقول عمر يس : وبعد أن كانت الغارات تنهمر علينا ليل نهار ، ساد السكون فى المكان بوفاته ، وتوقفت الغارات تماما ، ولم تخرج طلقة واحدة فى ذلك اليوم ، وأتذكر يومها أن السماء أمطرت مطرا شديدا ، وكأن السماء بكته . وكما أراد القائد ، تم لفه بالعلم إللى وصى أن يلف به عندما يموت ، وصلينا عليه ودفن فى الموقع .
يقول عمر يس ” رحمه الله ” يومين فى حياتى لن أنساهم أبدا .. اليوم الأول كان أسود يوم فى حياتى وهو اليوم الذى إستشهد فيه المقدم البطل إبراهيم عبدالتواب ، واليوم الثانى كان بعد أيام قليلة من وقف القتال وفك الحصار فى 20 فبراير 1974 بعد مباحثات الكيلو 101 مع هنرى كيسنجر ، وعاد الجنود المتبقين على قيد الحياة إلى معسكر خاص ، تم تأهيلنا بدنيًا ونفسيًا فيه قبل أن نرجع لـ أهلنا ، وأتذكر أننا عدنا في قطار من السويس إلى الإسكندرية في نهاية شهر فبراير ، وكان في إستقبالنا أهالي الأسكندريه بالزينات والأفراح والزغاريد
تعليق 1
  1. سعيد النشاءي يقول

    ممتاز يا عبد الناصر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.