الخميس القادم تحتفل مصر بالذكري التاسعة والأربعين لنصر أكتوبر المجيد ، ورغم أن هذه الحرب العظيمة لم تفصح بعد عن كل أسرارها وبطولات من شاركوا فيها إلا أنها كانت وستظل علامة فارقة في تاريخ مصر المعاصر ، وشرف للعسكرية المصرية ، وعزة وكرامة وفخر للشعب المصري ..
ليس لكونها حققت انتصارا تاريخيا علي إسرائيل ، وليس لأنها سحقت خط بارليف وداست عليه كما تدوس القدم علي بيت من رمال صنعه طفل علي شاطئ البحر ، وليس لأنها كانت في عز الظهر – وهو توقيت لم تعرفه الحروب العسكرية بين الجيوش حيث تبدأ الحروب مع أول ضوء أو آخر ضوء – وليس لأنها حققت السيطرة علي طول جبهة امتدت لأكثر من 180 كيلو متر وعبرت أكبر وأعقد مانع مائي في ست ساعات .. ولكن لأنها صنعت روحا تسري في وجدان الشعب المصري أطلقنا عليها ” روح أكتوبر” ..
قادة اسرائيل دائما ما يذكرون أنفسهم – مهما كان الجالس في سدة الحكم عندهم – بيوم كيبور ويؤكدون عزمهم على التحرك بلا هوادة من أجل عدم تكرار ما حدث ، بل والاستماتة لعدم نمو أي قوة عسكرية في محيطهم .
ما تشعر به إسرائيل منذ الهزيمة في 1973وحتي اليوم وإلي آخر الزمن يؤكد لنا وللأجيال التي لا تعرف كثيرا عن حرب أكتوبر غير سطور قليلة في كتب المدارس ، وللأجيال التي لا تعرف عن نصر أكتوبر غير يوم الأجازة – وبعد كل هذه السنوات – أن هذا النصر أحدث جرحا غائرا في جسد وعقل الكيان الصهيوني الغاصب ما زال ينزف حتي اليوم وسيظل ينزف طويلا !
وهذا يجيب عن السؤال الأهم .. لماذا تسعي إسرائيل بكل قوة لأن تصنع لها مجالا حيويا تعيش فيه .. أطلقت عليه ” دول الطوق النظيف ” بما يعني عدم وجود قوة عسكرية أو اقتصادية تنازعها هذا المجال ، وهو ما يفسر لنا لماذا تم تسويق مفهوم الفوضي الخلاقة في المنطقة الذي استهدف تفكيك الجيوش وتحويلها إلي ميليشيات متناحرة ومتعددة الولاءات ؟
ولماذا تم خلخلة الدولة الوطنية وإفراغها من مضمونها وإشاعة الانقسامات فيها حتي تحولت بعض دول المنطقة المهمة إلي دول فاشلة تعجز عن تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس أو الاتفاق علي دستور أو إدارة مواردها ، وهي بالمناسبة دول غنية تملك من الموارد ما يجعلها من الدول الكبري !
مصر وهي تحتفل بذكري نصر أكتوبر كل عام تدرك جيدا – قيادة وحكومة وشعب – أن الدولة الوطنية في مصر مستهدفة ، وأن محاولات زعزعة الثقة لن تتوقف ، وأن إشاعة اليأس والإحباط بين الشعب هدف تسعي له قوي الشر في المنطقة بمساعدة ضعاف النفوس في الداخل والخارج !
فمنذ تم إطلاق شعار الفوضي الخلاقة ، وما تلاه من ثورات الربيع العبري في المنطقة خرجت دول من نطاق مفهوم الدولة الوطنية ولم تعد حتي اليوم ، وظني أنها لن تعود في المدي القريب أو المنظور ، وإذا عادت لن تكون كما كانت من قبل .. فإما تعود منزوعة السلطة ومخطوفة القرار السياسي أو تعود مقسمة إلي دويلات صغيرة وكنتونات غير قادرة علي الحياة !
ما تبقي من حرب أكتوبر ونصرها العظيم – بعد استعادة التراب الوطني وآخر حبة رمل – هي تلك الروح العظيمة التي تسري في عقول وقلوب المصريين جيلا بعد جيل توقظ داخلهم حب الوطن والانتماء إليه وتشد عزيمتهم وهم يواجهون حروبا جديدة لا تقل شراسة عن حرب تحرير الأرض واسترداد الكرامة الوطنية ..
حروب تستهدف الإرادة الوطنية والشخصية المصرية والبسطاء من الناس خصوصا بعد أن صمدت مصر في حربها ضد الإرهاب وما زالت ، وبعد أن وأدت العديد من الفتن الطائفية وما زالت ، وبعد أن كشفت الشائعات التي تبثها فضائيات الجماعة وتنشرها مواقع تحت سيطرة أجهزة مخابرات وعملاء في الخارج والداخل قرروا بيع الوطن بثمن بخس وإن كثر .. دولارات معدودات وإن صارت ملايين .. حروبا نفسية تكرس الإحباط واليأس وتخطف الأمل من العيون وتنزع الولاء والانتماء من القلوب !
في ذكري نصر أكتوبر تحية للشعب المصري وتحية واجبة لشهداء الوطن والواجب في كل حروب مصر ومعاركها المقدسة ، وتعظيم سلام لكل مقاتل في جيشنا العظيم من القائد الأعلى إلي آخر جندي قاتل وساهم في تحقيق النصر ورد الكرامة والاعتبار وما زال ..
ويبقي القول .. كل عام ومصر بخير ودائما تحيا مصر وتسلم الأيادي