يزخر التراث الأسطورى بثنائية الفناء/الخلود. نرى ذلك فى أسطورة أوزوريس Osiris الذى أعادته زوجتة أيزيس Isis من عالم الموتى ليصبح أميراً فى مملكة الموتى، محققاً الخلود. ونراها فى أسطورة بيرسيفونى Perseophone التي اختطفها هاديس Hades، إله الموت، إلى العالم السفلي ولم تعد إلا بعد اتفاق الآلهة لتمكث ثمانية أشهر من كل عام مع الأحياء وأربعة مع الأموات، ومن هنا كان فصل الشتاء قارصاً، حزيناً على مغادرة بيرسيفونى الجميلة. وهناك أخيليس Achilles، نصف الإله الإغريقى، الخالد الجسد إلا من كعب قدميه الذي لم تمسه مياه الخلود لنهر الستايكس Styx، فصار الخالد الفاني في ملحمة هوميروس “الإلياذة” Iliad. وهناك أورفيوس Orpheus، صاحب القيثارة الساحرة، الذي يذهب إلى عالم الموتى لاستعادة زوجتة يوريديس Eurydice، وعندما يفشل يموت كمداً، ليجتمع شملهما مخلدين في العالم الآخر.
وثنائية الفناء/الخلود حاضرة أيضاً فى التراث العربى. فالوقوف على الأطلال عند الشاعر العربى الجاهلي، وإن كانت ظاهرياً بكاء على ماضٍ صار عدماً، لكنه إحياء لذات المكان وتخليد له، كما أن رثاء هذا الشاعر للأموات لهو بعث لأمجادهم وبطولاتهم تخليداً لهم. وينتصر الشاعر الجاهلى على الموت بمواجهته وجهاً لوجه في ساحة القتال، فإما النصر ليتحقق الخلود فى الحياة الدنيا وإما الموت ليتحقق الخلود فى التراث المحفوظ. والحب أيضاً هنا صفري النزعة، فيموت المحب العذري ولعاً بالمحبوبة بفعل أشجانه وعذاباته. يعيش متوحداً بها، محققاً للخلود بإزالة صفاته وإثبات صفات المحبوبة. فهو يحيا حين يموت. يقول قيس بن الملوح:
أمـوت إذا شطّت وأحيـا إذا دنت وتبعث أحزاني الصبا ونسيمها
فمن أجل ليلى تولع العين بالبكا وتأوي إلى نفس كثـير همـومهـا
كـأن الحشـا من تحتـه عـلقت بـه يد ذات أظفار فأدمت كلومهــا.
ثم نجد أبا العلاء المعري فى “رسالة الغفران” ينظر إلى الفناء باعتباره بوابة للخلود:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
إنّ حزنا في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد.
ونجد أبا القاسم الشابي فى قصيدة “إلى الموت” يبحث عن الخلود فى الفناء هروباً من قسوة الحياة، فيتغنى بخلود الموت الذى هو انتصار عليه وعلى حتمية الزوال:
إلى المــوت! لا تخـش أعماقــه ففيهـا ضيـــاء السمـــاء الوديــــع
وفيهــا تميـس عـذارى السمـاء، عـوارى، ينشــدن لحنــا بــــــديـع
وفي راحهــــن غصــــون النـخيــل يحـركنهـا في فضــاء يضــوع
تـضيء بـه بسمـات الـقـلـوب، وتخبـــو بـــه حســـرات الدمــــوع
هـو الموت طيـف الخلـود الجميـل، ونصـف الحيـاة الـذي لا ينــوح.
وفى “جمال الموت” لجبران خليل جبران، يحتفي الشاعر بالموت باعتباره خلوداً محققاً، تتحقق فيه الحرية بديلاً عن القيود. فالفجيعة بقدوم المحتوم فرح واحتفاء بالخلود:
دعـــوني أنــم، فقــد سكــرت نفســي بالمحبــة
دعـوني أرقــد فقــد شبعـت روحـي مــن الأيــام والليالي أشعلوا الشموع، وأوقدوا المباخر حول مضجعي، وانثروا أوراق الورد والنرجس على جسدي وعفروا بالمسك المسحوق شعري، واهرقوا الطيوب على قدمي، ثم انظروا ما تخطه يد الموت على جبهتي.
خلوني غارقا بين ذارعي الكرى، فقـد تعبت أجفاني مـن هـذه اليقظـة.
اضربوا على القيثارات ودعوا رنات أوتارها الفضية تتمايل في مسامعي.
وفى المنجز الشعرى المعاصر، يعد الموت انتصاراً للحياة على الهزيمة والانكسار، بوصفه تجدداً وبعثاً. يقول السياب فى “أنشودة المطر”:
أود لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحمل العبء مع البشر
وأبعث الحياة، إن موتي انتصار.
ويرى أدونيس في موته استمراراً للقدرة على خصوبة الأرض، وبالتالى التجدد والخلود:
وإني جاحمٌ
أحتضن الأرض كأنثى
وأنام.
ويقول أمل دنقل مناجياً إبنة صديقه القاص يحيى الطاهر عبد الله، وكله رجاء في أن يتحقق له الخلود:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت!!
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبدْ؟!
ويدرك محمود درويش أن لكل بداية نهاية:
لا شيء يبقى على حاله/ للولادة وقت
وللموت وقت/ وللصمت وقت …
ولا شيء يبقى على حاله …
كل نهر سيشربه البحر.
إلا أنه يستلهم الخلود والأمل حتى في الموت:
لا تضعوا على قبري البنفسج فهو زهر
المحبطين / ضعوا على التابوت سبع
سنابل خضراء إن وجدت / وبعض شقائق النعمان.
ولكن الخلود الأعظم عنده هو الخلود الفلسطيني، ومقاومة الفناء، فيتحول الضمير – أنا – إلى الضمير – نحن:
ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا،
فنحن قادرون على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن.
وفى النهاية، يظل الفناء/الخلود هما أصل الوجود. فهل رحلة الإنسان ترتكز على ثنائية تجعله يعيش معذبًا مكروباً؟ أم رحلة تصالحية، يدرك من خلالها أن الفناء/الخلود مكنونُُ واحد، يتصارع شكلاً، يتصالح مضمونًا؟