عبد الناصر البنا يكتب : عمر يس .. فى ذمه الله !

عبد الناصر البنا – الفضائية المصرية
إنا لله وإنا إليه راجعون
تلقيت يوم أمس بمزيد من الحزن والأسى خبر وفاة واحدا من أعز أصدقاء أخى الأكبر نورالدين رحمه الله
ممن تربوا معه فى بيتنا وهو الأستاذ عمر يس الذى أدعوا الله تعالى له بالرحمة والمغفرة .
عمر يس هو واحد من إللى حاربوا فى أكتوبر 1973 وكان واحدا من الأبطال إللى حققوا النصر لمصر وهو واحد من وقود الحرب الذين يجهلهم الإعلام دوما فى مثل هذه المناسبات . سوف أتقمص شخصية المقاتل البطل عمر يس رحمه الله ، عندما كنا أطفالا وكان يحكى لنا عن الحرب وعن البطولات التى حققها الجندى البطل المقاتل فى حرب أكتوبر المجيدة وأحكى عن سيرته الذاتية .
أنا عريف مقاتل / عمر يس أحمد ريان من مواليد 1951م فى محافظة قنا التابعة لـ مركز نجع حمادى ـ قريه هًو ، إلتحقت بالقوات المسلحة فى عام 1970 وأنهيت خدمتى العسكرية فى عام 1974 وأنا حاصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية ، الحمد لله أنى كنت واحدا من أبطال الكتيبة 603 مشاه أسطول بحرى التابعة للواء 130 ، وأنا أحد أفراد سلاح المركبات ، كنت سائق مدرعة برمائية ( حاملة جنود ) ماركة TOBAZ توباز ، روسية الصنع .
كانت مهمة الكتيبة 603 إشغال العدو والتمويه والتصدي له عند منطقة الممرات ، وفى يوم 6 أكتوبر 1973 وفى تمام الساعه الواحدة والـ نصف ظهرا ( قبل العبور بنصف ساعة ) كنا أول القوات إللى عبرت وبدأنا عملية الإقتحام من منطقه البحيرات المره الصغرى تحت غطاء من نيران المدفعية والقصف الجوي المصري ومضينا نحو الممرات حتى نمنع العدو القادم من التقدم إلي سيناء .
وفي يوم التاسع من أكتوبر وفى تمام الساعه 18.30 مساءا صدرت الأوامر للكتيبة 603 بقيادة المقدم إبراهيم عبدالتواب قائد الكتيبة بإقتحام النقطة الحصينة فى منطقة ( كبريت ) والإستيلاء عليها .
النقطة الحصينة في كبريت كانت مقر لإحدي القيادات الإسرائيلية الفرعية ” ولم تسقط فى العبور الأول ” وكانت في المنطقة الفاصلة بين الجيشين الثاني والثالث ، النقطة الحصينة كانت مصصمة لــ تتحمل جميع أنواع القنابل حتي وزن ألف رطل .. وكان يتوفر فيها إمكانات الاكتفاء الذاتي لمدة شهر ويزيد ، وغرفة عمليات جراحية كاملة التجهيز وكميات كبيرة من الأدوية والمعدات الطبية والسلاح .. إلخ
وبالفعل تحركنا في اتجاه كبريت ، ونجحت الكتيبة ٦٠٣ في إختراق كبريت بالمركبات البرمائية ، وأنا كنت سايق واحده منها ، ودخلنا وإشتبكنا مع العدو ، ودمرنا عددً كبير من مدرعاتهم وهجمنا على النقطة الحصينة وإقتحمناها الساعة 21.30 فى نفس اليوم ، وسيطرنا تماما على الموقع والمنطقة المحيطة به وفشلت كل محاولات العدو الإسرائيلى المستميته فى إستعادتها .
بعد 3 أيام من إستيلاءنا علي الموقع عاود العدو الهجوم من أجل إستعادة النقطة ، ولكن محاولاتهم كلها باءت فشلت ، وكنا نقوم بغارات ليلية علي قوات العدو المتجمعة بالقرب من النقطة وأحداثنا بهم خسائر كبيرة جدا وسببنا لهم الرعب .
كانت كل غارة من غاراتنا الليلية تتم بواسطة ضابط وأربعة أفراد فقط ، والحمد لله أننا قدرنا نشيع الذعر بين صفوف الإسرائيليين ، وكبدناهم خسائر كبيرة ، وخاصة بعد مازرعنا كل الألغام إللى معنا بإلإضافة للألغام إللى زرعوها ، وكانوا عاملين ممرات فيها ، وقدرنا ندمر عدد كبير جدا من مدرعاتهم إللى كانت تعوقها الألغام إللى زرعناها عشوائيا .
وكان الفرق بينا وبينهم أننا بنحارب علشان نموت وكنا داخلين الحرب وعارفين أننا ح نموت ووهبنا نفسنا وتأهبنا لنيل الشهادة ، يمكن علشان قادتنا زرعوا فينا عقيدة المقاتل المصرى القتالية( النصر أو الشهادة ) وأحنا قطعنا على نفسنا عهد أن لانرجع خطوة واحدة للخلف مهما كلفنا ذلك ، ودا على عكس عقيدة الجندى الإسرائيلى إللى كان بيخاف ويهرب من الموت .
الغارات الجوية الإسرائلية والمدفعية كانت مستمرة ولاتهدأ ، وكانت توجه ضرباتها على موقع كبريت ليلا ونهارا ، تقدر تقول كانت بيقوموا بغاره كل خمس دقائق تقريبا ، وألقوا علينا بالطائرات أطنان من مادة T.N.T ، وتقدر تقول إستعملوا كل أنواع الأسلحة على الموقع والله .
الغارات الإسرائيلية المستمرة على الموقع كبدتنا خسائر كثيرة تقريبا فقدنا ( ثلث) أفراد الكتيبه المكونه من 450 جندى تقريبا والمعدات .. إستمرار الغارات أدى لسقوط عدد كبير من المصابين والشهداء ، مكانش لدينا إمكانيات طبية ، وكان قدامنا مشكلة فى كثرة الجرحى والمصابين كان لابد من نقلهم بالبر أو البحر ليلا .. على فكرة كل تحركاتنا كانت تتم بالليل مع آخر ضوء وفى النهار كنا نختبىء فى الحفر البرميلية التى حفرناها وفى الخنادق .
أطبق العدو حصاره علينا ومع إستمرار الهجمات فقدنا الكثير من التموين والمؤن الخاصة بنا ونفذت المياه مننا .. فى البداية كنا نروى عطشنا من قطرات الندى التى كانت تتجمع على الزلط ، ولكنها لم تكن كافية لتروى ظمئنا ، إضطرينا لـ شرب مياه الردياتير من المركبات .
أتذكر كان لى زميل خريج كليه علوم من تقريبا من الفيوم أو أسوان مش متذكر كان إسمه ( فتح الباب ) قال لى ياعمر : ماتيجى نقطر ميه ، ضحكت وقلت له وكام بالك رايق ، فين المعمل إللى ح نقطر فيه ؟ .. وفين الدورق والسحاحه . قال لى أنت بتضحك ولا بتتكلم جد ، مش أنت دبلوم صنايع ، وتابع : هوا إنت مادرستش تقطير المياه بتكثيف البخار !!
وقتها حسيت أنى كنت فاقد الذاكرة وفجأة رجعت لى ذاكرتى مرة تانية ، قلت له : أيوه ، وبالفعل قمنا جايبين ( جركن حديد ) ومليناه من ميه البحر الـ مالحة ، وجبنا ماسورة حديد ووصلناها بجركن تانى فاضى بعد ما أحكمنا ربطها ولفيناها بالخيش علشان ماتسربش البخار ، وبالفلنكات الخشبية المبطنة للساتر الترابى للنقطة الحصينة أشعلنا النارتحت الجركن المليان بالميه ، وكل شويه كنا نقوم بصب المياه الباردة على الماسورة الملفوفة بالخيش وعلى الجركن الفارغ إللى بيتقبل البخار .
ونجحت الفكرة وكان البخار يتكثف وينزل على شكل قطرات فى الجركن الفارغ ، ولما نجحنا عممنا الفكرة وعملنا إكتفاء ذاتى من الماء ، طبعا الأمور مكانتش تمر نمرور الكرام ، لكن الطريف أننا نسمع فى إذاعة إسرائيل وإحنا محاصرين أن القوات المصرية المحاصرة فى كبريت تمتلك أحدث الأجهزة لتقطير المياه ، وكما نضح ، وكنت دايما أذكر فتح الباب بالموضوع دا بعد فك الحصار .
كان نوقد النار بالخشب المبطن به الساتر الترابى على طول خط بارليف ولما خلص الخشب كان فى خط سكة حديد قديم ، كنا نفك منه الفلنكات الخشبية ونشيلها للموقع ، نشققها ونشعل فيها النار ، كانت العقبه فى إحضار الماء المالح ، نفس خطورة إحضار الفلنكات ، العدو كان مترصد لنا ومستهدفنا طول الوقت ولم يياس ول للحظه فى محاولات مستمينه لـ إستعاده الموقع !!
لدرجه أنهمم كانوا يضربونا بقنابل بتعمل خلخلة فى الضغط ، تلاقى الواحد من زملاءنا ميت والدم بينزف من كل الفتحات الموجودة فى جسمة نتيجة خلخلة الضغط .
الطريف بعد مباحثات الكليلو 101 ، وفض الإشتباك ، أتذكر أن قوات الأمم المتحدة الـ ( UN ) دخلوا علينا الموقع ، وطلبوا مننا ميه يشربوها ، ومكانوش مصدقين أننا لانملك أجهزة تقطير مياه إلا لما شربوا وشافوا بعينهم إحنا بنعمل إيه !!
على فكرة تسليحنا كان تسليح خفيف ( رشاش بورسعيدى ) ، ومكانتش معهداتنا كافية لصد هجمات العدو أثناء الحصار ، وبعد شهرين من الحصار فشلنا في إستلام إمدادات ، ومكانش قدامنا حل غير أننا نجمع أسلحة النقطه الحصينة إللى تركها الجنود الإسرائيليين وهما بيهربوا مننا ، وقام الظابط (جابر شعرواى) بعمل صيانة لها ، وإستعملناه مرة تانية .
بعدها بدأت ( رحلات الموت ) وكان يقوم بها بعض الضباط بالقرب من تمركز العدو ونجحنا فى العبور 3 مرات ، وزودتنا اللنشات ببعض المعلبات والبسكويت وبطاريات لجهاز اللاسلكى ، ورموز فك الشفره
لكن الإسرائيليين مكانوش عاوزين يسيبونا فى حالنا ، وكانوا يطلقوا دانات مدفعيه مضيئه ويتعقبوا اللنشات لدرجة انهم كانوا يوجهوا الضربات على الكراتين الملقاه على الشط .. وبعدها فشلت تماما محاولات العبور .
وهنا لابد أن أتذكر القائد البطل الشهيد إبراهيم عبدالتواب قائد ملحمة كبريت وأترحم عليه ، وأنا لما أتكلم عن الشهيد إبراهيم عبدالتواب الذى كان يؤمنا فى الصلاة ، وكان مصدر قوتنا وصلابتنا بعد الله سبحانه وتعالى ، لابد وأن تملأ الدموع عينى .
يومين فى حياتى لن أنساهم أبدا .. اليوم الأول كان أسود يوم فى حياتى وهو اليوم الذى إستشهد فيه المقدم البطل إبراهيم عبدالتواب .. واليوم الثانى يوم أن إستقبلنا أهالى الإسكندريه وإحنا راجعين بالود والترحاب بعدما تم فك حصارنا !!
أعود للبطل إبراهيم عبدالتواب وأقول أنه كان لنا القدوه والمثل .. وكان صاحب الفضل في بث روح المقاومة في نقطة ” كبريت ” ، أتذكره وهو يؤمنا فى الصلوات الخمس فى موعدها ، وهو يخطب بنا الجمعه ، خطبا تملأنا بالحماس والقوه والصمود والمزيد من التحدى .. أتذكره وهو يتقدم الصفوف دائما .
الشهيد البطل إبراهيم عبدالتواب كان يدعم الجنود نفسيًا بثباته ، كان يجمعنا ويوزع علينا أكل عبارة عن بسكويت وعلب فول بالتساوى ، يمكن عدله هو إللى شجع الجنود الجوعانين على التمسك والصمود ، أتذكر أنه كان يتنازل أحيانا عن التعيين الخاص به لما يحس إن واحد من جنوده مش قادر يستحمل الجوع رغم الإعياء إللى كان ظاهر عليه من قله الأكل والمجهود الرهيب اللى كان بيبذله .
المقدم البطل إبراهيم عبدالتواب كان يقف وسط الجنود ، ومكانش يسمح بأى تحرك لعربة مدرعة إسرائيلية أو دبابة أو جندى ، وكنا نقابل ده باطلاق النار الفورى ، وكانت الإشتباكات لاتهدأ ، وكان ده يجن جنون العدو ويزودوا من هجماتهم علينا .
يصمت البطل عمر يس قليلا والدموع تملأ عينيه ثم يواصل حديثه وهو يقول : أتذكر تماما يوم إستشهاد البطل إبراهيم عبدالتواب في يوم 14 يناير 1974 ( قبل فك الحصار بأيام ) كنا فى آخر النهار وكانت الهجمات فى أشدها ، وكان يمسك نظارة الميدان يستطلع الموقع ، فتم رصده من قبل العدو الغادر الذى إستهدفه بدانه مدفع هاون ، فإستشهد فى الحال بيننا ، وكما أراد ، لفيناه بالعلم إللى وصى أنه يلف بيه لما يموت وصلينا عليه ودفناه فى الموقع .
بعد ماكانت الغارات تنهار علينا ساد السكون فى المكان بوفاته ، وتوقفت الغارات تماما ، ولم تخرج طلقة واحدة فى ذلك اليوم ، وأتذكر يومها الدنيا أمطرت مطرا شديدا وكأن السماء بكته .
وبعد أيام قليلة وتحديدا فى ٢٠ فبراير ١٩٧٤ تم وقف القتال والفصل بين القوات بعد مباحثات الكيلو 101 مع هنرى كيسنجر .. وعاد الجنود المتبقين على قيد الحياة إلى معسكر خاص ، تم تأهيلنا بدنيًا ونفسيًا فيه قبل أن نرجع لـ أهلنا ، وأتذكر أننا عدنا في قطار من السويس إلى الإسكندرية في نهاية شهر فبراير ، وكان في إستقبالنا أهالي الأسكندريه بالزينات والأفراح والزغاريد .

ويصمت عمر يس وهو يتمتم بقراءه الفاتحه على روح الشهيد البطل المقدم إبراهيم عبدالتواب ورفاقه الذين دفنوا فى رمال كبريت !!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.