لسنوات طوال عانى الصعيد مرارة الجهل والفقر والحرمان ، وإنحسار دور الدولة فى المشروعات والخدمات ، وهو ما أدى إلى إنتشار الخرافات والعادات السيئة والجريمة بكل أنواعها .. إلخ .
وحتى وقت فريب كانت لعنة ” الثأر” واحدة من العادات السيئة المتأصلة فى مجتمع الصعيد ، وكان الثأر هو الإرث المر الذى إكتوى بناره الجميع ، ولقد ظل الثأر لسنوات طوال هو وقود الموت الذى يسقط عشرات الضحايا يوميا مابين قتيل وجريح فى الصعيد . وهناك مثل يقول : أنا وأخويا على إبن عمى ، وأنا وإبن عمى على الغريب ومن المعروف أن الخلافات والخصومات الثأرية يمكن أن تدب لأتفه الأسباب ، وقد تكون بين أفراد العائلة الواحدة ، أو أكثر من عائلة ووقتها يتحد أبناء العائلة المتخاصمين ضد الغريب ، وما أن ينتهى الخلاف تتجدد خلافاتهم مرة أخرى .. وهكذا
ومما لاشك فيه أن لهذا الإرث السىء ضحاياه الذين بتم إختيارهم بعناية شديدة وهم فى الغالب من خيرة أبناء الصعيد الذين يتم إختيارهم للأخذ بالثأر منهم ، إمعانا فى التشفى والإنتقام ، وهى محاولة لوجع أهاليهم عليهم ، وهكذ تدور الدوائر .
يعرف الثأر بأنه سلوك بشرى يقول الله تعالى { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ويقول { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } صدق الله العظيم .
والثأر عاده أو سلوك سىء وجد منذ أن وجد الإنسان على وجه الأرض ، وكثيرا ما تراود الإنسان نفسه أن يرد الظلم لمن ظلمه أو
عنّفه الصاع صاعين أو أكثر ؟ ويمكن أن يشعر بالراحة بعد أن ” نفّس ” عنه مشاعر الغضب ، ولذلك فلا عجب فى أن يجد الإنسان
لذة فى الأخذ بالثأر ، بل إن البعض قد يسعى للإنتقام لكي يستعشر هذه اللذة !!
والحقيقة أن الإنتقام والتشفى قد يعمى الأبصار عن العواقب الوخيمة التى يمكن أن تترتب عليه مثل القتل أو إحداث عاهة .. إلخ . “
الدم يستسقى الدم ” هذا هو منطق الثأر فى الصعيد وبعض المجتمعات القبلية ، وغاليا مايغلف الثأر بمفاهيم تطفى عليه الرفعة
والسمو وخاصة عندما يرتبط بالشرف والعار أو العزة والكرامة والإنتماء للعائلة ، ولعل من أسباب إنتشار لعنة الثأر فى الصعيد أن هناك
قناعة راسخة لدى الشخصية الصعيدية بضرورة الأخذ بالثأر حتى ولو كان القتل حدث عن طريق الخطأ ، ولذلك فالثأر هو من ” ميراث
الجاهلية ” .
وقد إقتضت العادة فى الصعيد أن يقوم أهل القتيل بقتل القاتل نفسه أو أحد أفراد عائلته كنوع من الإنتقام دون إنتظارا لـ أحكام القضاء أو أثناء المحاكمة ، إن أفلت القاتل وكانت يد العدالة أسرع من قتله ، أما مايزيد الأمور تعقيدا ويجعل من الخصومة سجالا بين العائلتين ، عندما يقتل شخص وترد عائلته بقتل أكثر من شخص أخذا بثأره ، وتكون النتيجة وقوع عشرات من الضحايا بين الطرفين . والحقيقة أن من يتردد فى أخذ الثأر غالبا مايوصف بأنه ( جبان ) وقد يصل الأمر إلى أن يعاقب بالطرد من عائلته أو يكون منبوذا .
وأعتقد أن مايزكى الثأر فى الصعيد هو إمتلاك السلاح ، أما الإنتقام الغاشم الذى يحدث في كثير من الأحيان فهو نوع من الوجاهة الإجتماعية أو إستعراض القوة والغلبة . ولذلك لاعجب فى أن تجد قرى فى الصعيد جرى العرف على تسميتها قرى ” الدم والنار ” ولعل أشرس الصراعات التى حدثت فى تلك القرى وراح ضحيتها العشرات من القتلى والجرحى كانت أسبابها تافهه جدا ، كأن يأكل حمار من أرضا ليست ملكاً لصاحبه ، فيقوم صاحب الأرض بإطلاق النار على صاحب الحمار ، أو أن تأتى الخصومة بسبب لعب الأطقال ، وأحيانا حول تقسيم الميراث ، أو بسبب القتل الخطأ .. إلخ
وعن الثأر فى الصعيد يقال دوما فتش عن المرأه الصعيدية فهى غالبا ما تلعب دور المحرض في كثير من الأحيان لـ أبنائها للأخذ بالثأر ، وإن كان الإبن طفلا لم يبلغ بعد تظل الأم تزكى فيه روح الأخذ بالثأر حتى يكبر ويشب ويقوى على حمل السلاح . وإلى وقت قريب ظلت الأم فى الصعيد محتفظه بعاداتها وتقاليدها التى لم يغيرها الزمن . ومع إنتشار العلم وإتجاه الدولة لـ إحداث تنمية حقيقية فى الصعيد .. إلخ دب العلم فى أوصال الصعيد وتغيرت الكثير من العادات والتقاليد ولذلك ذابت أغلب الخصومات الثأرية بالصلح وتحكيم العقل والمنطق .. إلخ
لكن الشىء الموسف مع إنتشار التيك توك والـ Social Media طفت على السطح ظاهرة جديدة أصبحت لافته للنظر وأحذر من خطورتها وهى نشر مقاطع فيديو مصوره لـ شباب من الصعيد تحض على العنف والقتل والخطف والترويع والأخذ بالثأر .. الخ . وكأنما هؤلاء الشباب لم يجدوا فى تراث أبائهم وأجدادهم إلا هذا الإرث البغيض وتلك العادات التى إكتوى بنارها الجميع لـ يثبتوا أنهم نبت هذا الزرع .
أى سفه هذا الذى نراه ، وأين الدولة وأجهزتها الأمنية إن لم تكن مهمتها منع الجريمة قبل وقوعها ، وكيف تسمح لـ هؤلاء الشباب بالتمادى فى تقمص شخصيات إجرامية عفى عنها الزمن مثل الخط وغيره ؟ والحقيقة أننى أدق ناقوس الخطر لكون الموضوع أصبح ظاهرة إنتشرت على وسائل التواصل الإجتماعى لها حطورتها فى إحياء مايسمى بميراث الجاهلية ، وأعتقد أنه لو لم تتدخل الدولة ولـ تضع حدا لتلك “التفاهات” التى يقوم شباب الصعيد بنشرها ، فقد تفلت الأمور ويحدث مالايحمد عقباه ولنا فى حديث رسوله الله (ص) المثل والقدوة فى قوله ” الفتنة نائمة ولعن الله من أيقظها ” . حفظ الله أبناءنا من كل سوء ومكروه .