” الحصن المنيع ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الأديب محمد الشرقاوي

أفزعها صوت الرنين السريع المتواصل لجرس الباب ، وبدقات قلب بلغت سرعتها

أضعاف ما تسمع ، تهرول إيمان لتدرك سبب ذلك ، إنه زوجها حسان ، لكنه عاد

مبكرا وعلى وجهه علامات الحزن والضيق ، يلقي بجسده على أقرب كرسي ،

العينان شاردتان والصمت عنوان ، تسأله عن السبب فلا يجيب ، يزداد قلقها فتعيد

السؤال راجية أن يريح قلبها ، يشير بأصبعه إشارة تفهم منها عدم رغبته في

الحديث ، تتمالك أعصابها لعدة لحظات ثم تعيد السؤال ولكن بلا جدوى .

في لحظة حاسمة وقبل أن يسيطر عليها الغضب ، تجري عدة مكالمات هاتفية

قصيرة تطمئن من خلالها على أولادهما وعلى أسرتيهما لكنها لم تفصح عن سبب الاتصال ، تهدأ قليلا لتفكر ماذا

تفعل ، تتجسد أمام عينيها صورة  أمها ، كيف كانت حكمتها ، وماذا كانت تفعل في مثل هذه المواقف ، فالبيوت

تحتاج الحكمة والصبر حتى تظل عامرة بالود والتعاون ، ما زال في أذنيها ذلك الصوت الحكيم من والدها الذي قدم لها

ولإخوتها خلاصة عمره في صورة  نصائح غالية تمثل منهجا للحياة الآمنة ، يعود الهدوء إلى قلبها رويدا رويدا ، تمر

الدقائق خلف بعضها ولا يزال الصمت مسيطرا .

تغيب عن أنظاره لحظات ثم تعود لتضع أمامه كوبا من الماء وآخر من عصير الليمون وطبقا عليه قطع من ثمرات

البرتقال المرصوصة بشكل هندسي رائع الجمال ، تمسك بكوب الماء وتقترب لتسقيه بيدها بينما تضع يدها الآخرى

على كتفه برقة وحنان ما أحوجه إليهما ، يشرب قليلا ، ثم تقدم له كوب العصير لتسقيه أيضا بيدها ، تنسحب

ملامحه نحو الهدوء وتنفرج أساريره شيئا فشيئا ، ولكنها ما زالت ملتزمة بالصمت بينما عيناه تحدقان نحوها بشدة .

ببطء شديد تتحرك شفتاه قائلا : لقد خسرت أموالي في أخر صفقة تجارية قمت بها ، لقد ضاعت أحلامي . تقترب

إيمان قائلة : لا عليك ، الأهم عندنا أنك بخير وبعد ذلك فكل شيء يتم تعويضه ، فاولادك يحتاجونك بينهم ولابد أن

تكون صامدا حتى يستمدوا منك العزم والصمود ، ينظر إليها وعيناه تعترفان بصواب رأيها ولكنه يحاول جاهدا أن يزيح

عقله خارج محيط الياس والحزن .

ينتبه لصوت رنين هاتفه ، تمتد يده نحو جيبه لالتقاطه ، يبدو على شاشته اسم أحد أصدقائه المقربين ، يضغط

بأصبعه ليبدأ الحديث ولكنه ينهي سريعا بعد عدة جمل تلغرافية قصيرة جدا ، ثم يعود لحالته الأولى التى تجسدت

عند عودته ، تقترب إيمان قائلة : لن ألح عليك في السؤال حتى لا تغضب ، وبذكاء الأنثى ، تبتعد خطوات لتوهمه

بأنها ستنصرف ، يناديها مشيرا لها بالجلوس بجواره ، يصارحها : هذا صديق من أقرب أصدقائي له عندي مبلغ من

المال ويطالبني به الآن رغم علمه بما أمر به ، لا أدري كيف يكون هذا صديقا ، لابد من إعادة ترتيب الأشخاص في

حياتي ، تربت على يده قائلة : لا عليك ، اترك أمورك لمن بيده الأقدار .

تنصرف الزوجة لتعود بعد دقائق وفي يدها ما تبقى من مجوهراتها لتقدمها له بابتسامة صافية ، يرفض بشدة ولكنها

تزداد إصرارا وتعلل ذلك قائلة : إذا لم أكن بجوارك في هذه الظروف فمتى أكون ؟ إن هذه أموالك ونحن مسئولان معا

عن بيتنا وأسرتنا ومستقبل أولادنا ، تترك له المجوهرات وتنصرف بينما ينصرف عقله مسافرا في دروب الذكريات

ليتجسد أمام عينيه حواره مع والده حين نصحه بالزواج من إيمان لأنها نشأت في بيت علم وصلاح واخلاق فاضلة ،

بينما كان قلبه مشغولا بفتاة آخرى تسللت إليه بملابسها الضيقة القصيرة وأدوات التجميل الخادعة ، يعود من رحلة

الذكريات قائلا : لقد كنت محقا يا أبي ، أحمد الله أن وفقني لسماع نصحك ، الآن أدركت ما قيمة نصيحة الأب .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.