الدكتور أسامة مدني يكتب : “في العطاء منع، وفي المنع عطاء”

الدكتور أسامة مدني
أتعجب من صراع الإنسان المحموم نحو عطايا الدين والدنيا معاً؛ من كَر وفر لتحقيق المال والجاه،
للفوز بالمناصب والمراكز؛ من تسابق وتناحر لنيل مبتغي قريب أو بعيد! وأتعجب أكثر أنه في سعيه
هذا يتصارع ويتقاتل، يتآمر ويتحازب. يريدها مكاسب غير منقوصة في الدنيا والآخرة، عطايا غير
مشروطة في السماء وعلى الأرض. لا يفكر برهةً أن انتصاره قد يكون هزيمة لمستسلمين، أن
مكاسبه ربما خسارة لمعدومين، أن عطاياه فيها منع لمستحقين. لا ينتبه أنه انتصر قهراً وكسب
سحتاً وسعى نحو الآخرة آثماً مذنباً! أهي أنانية مفرطة تتطلب التهذيب؟ أم شرور دفينة تستوجب
التطهير؟ أم مُخلَّفات وشوائب تحتاج إلى المراجعة والتفنيد؟
في السراء والضراء الخير الوفير، في اليسر والعسر المنح الكثير، في العزم والوٓهنْ الحمد الجزيل.
لكننا قليلاً ما
نعتبر. يقول ابن عطاء الله السكندري: “ربما أعطاك الله فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في
المنع عاد المنع عين العطاء”. فالنعم الوفيرة قد تكون مصدر شرور وفتن، ابتلاء ونقم؛ ومنعها خير ونفع ومغنمُ. ففي
منع النعمة عين العطاء، والرضا بقضاء الأقدار من أرفع درجات اليقين. يقول السكندري: “متى فُتح لك باب الفهم في
المنع، عاد المنع عين العطاء”. ثم يقول: “لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك؛ فهو ضمن لك
الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك، وفى الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد”.
فأمرنا جميعاً خير، سواء كنّا في ضيق أو في رغد. يقول ابن عباس: “أول من يُدعى إلى الجنة يوم القيامة الذين
يحمدون الله تعالى على كل حال”. ويقول عبد الله بن مسعود: “لأن ألحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت
أَحب إلىّ من أن أقول لشيء كان ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن ليته كان”. وها هو الرسول الكريم (صلى الله عليه
وسلم) يقول: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ
وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ”. كما يقول (صلي الله عليه وسلم): “مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللَّهِ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ لَهُ”. ويوجز سبحانه: “وَعَسَىٰ
أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ” (البقرة 216).
ليتنا نعتبر أن في العطايا قد يكمن الابتلاء الدفين، وفي المنع قد يكمن الخير الوفير. لنحتسب ونحن نلهث خلف
طموحاتنا وآمالنا ألّا نظلم أنفسنا ونخسر العالمين، وليكن قَوْل السكندري ماثلاً، حاضراً: “ربما أعطاك فمنعك، وربما
منعك فأعطاك”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.