اتفق الغالبية من المهتمين والمعنيين بان الاستثمار الحقيقى والأبقى هو بناء الإنسان, هذا الكيان المحورى فى مسارات الحياة المتنوعة والمختلفة زمانا ومكانا, ومن خلال مفردات ثلاثة هى الحضارة والمعرفة والثقافة يرتقى الانسان ببنائه الانسانى الذى يحوى الأخلاق والمبادىء والمثل, وتلك الثلاثة الأخريات تعنى القيم الإيجابية فى حياة الإنسان وبهذا تسمو المشاعر الانسانية التى تحفز الإدراك العقلى لينتج سلوكيات حياتية تتسم بالإنسانية وتغادر حياة البدائية ارتقاءً إلى الانسان المتطور للأفضل باستمرار, وبإتباع ما صاغه المفكر فؤاد زكريا فى مؤلفه الرصين “التفكير العلمى” الذى يدرب العقل على منهجية التفكير العلمى وصولا للحقيقة المنشودة, ومن خلال مناهج البحث العلمى كتلك التى كانت بداياتها عند اليونان بالمنهج الاستدلالى أو المنطقى عند افلاطون, وتطور للفرضى أو التحليلى, وعند ارسطو منهج الغائية, وعندنا – العرب- فلاسفة المنهجية فى الوصول للحقائق أمثال ابن رشد وابن سينا وابن خلدون والمقدسى والمقريزى وابن حيان, وفى الغرب كان فرنسيس بيكون وبعده رينيه ديكارت صاحب مبدأ الشك, وتلاه دور كايم, ورسل, وستيوارت ميل وصولا إلى كانط الذى استخدم المنطق بشقيه بدءاً من شروط العلم الصحيح والثانى التوصل للشكل العام للحصول على المعرفة وهو ما اتفق على تسميته بعلم المناهج, ورغم اتفاق معظم الباحثين على تسمية المناهج ما بين التاريخى والوصفى والتجريبى والفلسفى والتنبوؤى والاجتماعى أمثال ماركيز وهوتينى وسكيتس وغيرهم الا ان المنهج الابداعى تفرد به هوتينى, ومن هنا نبدأ بالتعرف على ماهية الاستثمار الثقافى وهدفه العام وجملة أهدافه الفرعية, ونختبر – معا- صحة منهج البحث فى الوصول لأهمية بل لفضيلة الاستثمار الثقافى فى الانسان, ” الاستثمار” يعنى اننا نتحدث عن تنبؤات بالزيادة الكمية والكيفية, وهى مفردة اقتصادية بالدرجة الأولى تناولتها أدبيات الاقتصاد بالبحث والفحص, حتى انها مرادفة لجملة اجراءات علمية مخططة مسبقا ومنظمة بدقة فى آدائها لمشروع ما وصولا لهدف تنامى مدخلات معينة سواء بزيادتها عدديا أو تغيرها كيفيا لمخرجات أفضل, وأوليات خطوات الاستثمار الانسانى كان الاقتصاد الرعوى القائم على حرفة الرعى المتنقلة حيث عشوائية انتشار الكلأ, وتلاه الاستثمار بالاقتصاد الزراعى عند بدء الثورة الزراعية واستقرار الانسان على حواف مصادر المياة الدائمة, وعقب الثورة الصناعية كان الاقتصاد الصناعى الذى تنامى الاسثمار فيه بمتواليات عددية الا ان الزيادة الكمية فى المخرجات كانت على حدود المنفعة الحدية طبقا لاحتياجات السوق, والى ثورة المعلومات التى كان الاستثمار فيها عبر مراحلها الخمسة متنامى بعوائد متزايدة بمتواليات هندسية, فكان الاستثمار المعلوماتى, وعندما ازدادت ثروات الانسان المادية وقدرته على الانتقال ظهرت أنواع من الاستثمار كالترفيهى والعلاجى والخدمى واللوجستى, إلى ان اتجه الصفوة إلى ما يسمى بالاستثمار الابداعى وهو الثقافى الذى يأخذ أشكال المشروعات الاعلامية والأدبية ومجالات النشر كمعارض الكتاب والفنية كهوليود وبليوود وتحقق عوائد للدخل القومى تعتلى المراكز التالية بعد استثمارات السلاح أو التكنولوجيا, وفى النهاية تم تسخير هذه الاستثمارات الثقافية من خلال آليات التكنولوجيا لتكون بديلا للسلاح التقليدى, نتوقف هنا قليلا, ونتجه إلى مفردة ” الثقافة” وهذه لها تعريفات عديدة ومتنوعة لكنها ليست مختفلة فى مضامينها بدءاً من تثقيف الرماح أى تسوية الرمح بألة الثقاف, مرورا بالقول (ثقف الرجل ثقافة) أى صار رجلا حاذقاً فطناً, مرورا بتعريفات تايلور ومالينوفسكى وكلايد كلوكهون, وعند أديب نوبل نجيب محفوظ :”الثقافة ان تعرف نفسك, ان تعرف الناس, ان تعرف الاشياء والعلاقات, ونتيجة لذلك ستحسن التصرف فيما يلم بك من أطوار الحياة”, ونهاية هى اللغة والاشارات وآليات التواصل المجتمعى على اختلافها – ارتقاء وتخلفا- والعادات والتقاليد والاديان والشرائع والآداب والفنون واشكال التعبير وأنماط التفكير وطرائق التعامل مع الآخر من البشر ومع الغير من الكائنات والأشياء – الحية والجماد- وسلوكيات الحياة اليومية, إذا فالثقافة ليست حكرا على المتشدقين بالمهجور من الألفاظ سردا ونظما, أو المشنفين اسماعهم لسيمفونيات الكلاسيكيات, أو المكحلين أعينهم بعجائب الرسومات الانطباعية والتكعيبية والسيريالية والتجريدية وغيرهم, بل هى – الثقافة – طبائع حياة تتناسب طرديا مع الارتقاء الجماعى وليس الفئوى أو النوعى, فكلما ارتقت الثقافة بمفهومها الأشمل والأعم كلما ارتقت الحياة تحضرا, وهنا كان مقتضى الحال يستوجب استثمارا فى الثقافة حتى تتحضر الحياة, وعندما كان الاختبار – المتعدد تاريخيا وحاضرا- لاهل القناة وسيناء تسلحوا بالثقافة بمعناها الحياتى وقدموا حياتهم ايمانا واعتقادا منهم بان هناك ما هو أعلى وأغلى من الحياة, ولنا قادم ان شاء الله مع الثقافة ومدن القناة وسيناء والمصرى الجديد.