” بودي ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

الأديب محمد الشرقاوي
ما زال الشتاء في أوج شبابه وقوته ، تبدو آثاره واضحة على كل ما يحيط بنا ، فالطوابق العليا من البنايات تختفي تماما عن الأنظار بفعل الضباب الكثيف ،
أما سائقو السيارات فلا يكادون يبصرون سوى بضعة أمتار أمامهم في شوارع المدينة الداخلية ، الأشجار تبتسم لقطرات المطر الخفيفة التي تغازلها دقائق قليلة ثم تغيب ثم تعود مرة آخرى ،
البطء في الحركة جعل المدينة وكأنها ما زالت في نوم عميق ، أما أشعة الشمس فتبدو كالوليد الذي يحاول أن يحبو عابرا ما يعترض طريقه من العوائق ليصل إلى هدفه
فيمضي ويتوقف ويعيد المحاولة بعزيمة أقوى فيصل بعد جهد شاق ليتلقفه محبوه فور وصوله بشوق وترحاب .
هنا في مدرسة البحر الصامت ، تتوالى جموع الطالبات في وقت مبكر من الصباح للحصول على نتيجة نصف العام الدراسي التي تم الإعلان عن ظهورها ،
الفناء محتل بأعداد غفيرة وعلى الوجوه تبدو علامات الشوق ، مجموعات متفرقة من الطالبات ربما يجمع بين كل مجموعة منها الجوار في المسكن أو المشاركة في نفس الفصل أو المشاركة في الطباع والأخلاق إلى غير ذلك ،
أكياس الشيبسي وأكواب الإندومي كان لها استحواذ ملحوظ على أيدي الطالبات ، كم كبير من الأسئلة يدور بينهن عن التوقعات المحتملة للنتيجة لكن يظل الانتظار ويزداد الشوق .
في أحد الأركان تقف هيفاء مع صديقتها الحميمة نادين وتتبادلان الحديث :
هيفاء : ألاحظ عليك الهدوء الشديد ، لماذا ؟
نادين : لأني واثقة في النجاح ، وليس النجاح فقط ، لكنني سأكون الأولى على المدرسة كلها .
تتعجب هيفاء وترسل لها نظرة شاخصة بعينين يملؤهما التكذيب والدهشة مما تسمع ،
فتعيد لها سهما موجها بكلمات قليلة :
كيف ذلك ، ألا تتذكرين خروجك باكية من كل لجنة امتحان وتؤكدين أنك تركت ورقة الإجابة فارغة دون أي كلمة .
نادين : نعم ، ولكن سترين بعينيك النتيجة حالا .
تأتي الشهادات مع أحد العاملين فيبدأ في توزيعها حتى يصل لاسم نادين ، تتلقف شهادتها سريعا لتري هيفاء صدق توقعها ، فتزداد لديها الدهشة ،
تسألها : هل تصارحينني بحكم صداقتنا الطويلة ،
ترد نادين : نعم ، ولكن على وعد منك بكتمان هذا الأمر ،
تؤكد هيفاء سرية الخبر تماما فتبدأ نادين في إزالة سبب الغموض فتقول :
تعلمين أن بودي هو رئيس لجنة الامتحان ( الكنترول ) وقد حضرت معه مراجعة مادة الكيمياء في أحد مراكز الدروس الخصوصية وبعد انتهاء الحصة طلب مني الانتظار حتى فرغت القاعة تماما ،
وهنا أخبرني أنه يحبني ووعدني أن أحصل على المركز الأول في المدرسة ، ثم اقترب مني فوجدت نفسي مستسلمة له ،
ظل يقبلني ويضمني حتى خرجت مشاعره عن السيطرة وكدت أن أطلب منه المزيد لكني توقفت خشية تطور الأمر
هنا أخبرني أنه سوف يتزوجني قريبا وغادرت القاعة في انتظار تحقق الحلمين وها هو الحلم الأول قد تحقق .
ذهول عميق يسيطر على هيفاء وهي تسمع تلك القصة ،
تعود لذاكراتها لترى نفس القصة التي حدثت معها ومن نفس الشخص ، تترد ما بين الإفصاح والكتمان ، أسئلة عديدة تدور في ذهنها :
ما الذي يحدث ؟ وكيف يكون ذلك ؟ ولماذا يفعل بنا هكذا ؟ هل أصبحنا في عصر الذئاب المفترسة التي ترتدي ثياب الناصحين الأمناء ؟
لكنني لن أصمت طويلا ، سوف أنشر قصته لتصل لكل إنسان على وجه الأرض ، فربما يستيقظ ضمير أحد المسئولين ويوقع عليه عقوبة مناسبة تردعه وتكون واعظا لغيره ، إننا حقا نعيش في مأساة شديدة .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.