الإعلامي محمود عبد السلام يكتب : (تباريح أوراد أهل الجوى ) .. سدرة الايمان

الكاتب محمود عبد السلام
عنوان المقال هو فى الأصل عنواناً لديوان شعر ، للشاعر الجنوبى الكبير دكتور محمد أبو دومة ، ربما لا يعرف الشاعر كثيراً من الناس ،
وربما كان هو لا يبحث عن الشهرة. لا أعلم سبباً مباشرا جعل أبو دومة قليل الحظ من الانتشار بين الجمهور ، لكنه بالتأكيد  قيمة كبيرة بين الأدَباء والشعراء .
ضمن إنتاجهُ الشعرىّ ، ديوان ( تباريح اوراد أهل الجَوى) ، والتباريح هى الآلام أو الشدة، والجوى هو شدة الوجد ويستخدم المصطلح عن شدة الحب و الغرام .
قراءتى الأولى لهذا الديوان كانت فى مطلع شبابى فى اواخر الثمانينات ، وكنتُ أهوَى الشعر ولى محاولات فاشلة بلا وزن او بحر لكنها كانت تعبيراً صادقاً ،
أحياناً كان يصدفهُ بعض الحظ فيلقى القبول عند مستمعيهِ ، وكنت أتردد بين الحين والآخر على الهيئة العامة للكتاب للإطلاع وأقتناء بعض الكتب القيمة ذات أسعار فى متناول اليد ،
ولسبب طول التردد تعرفت على بعض العاملين بالهيئة ، أسْتَئنسوا بصداقتى ورحبت أنا بمعرفتهم ، ثم تعمقت العلاقة معهم وصرنا زملاء عمل واحد لكن فى أماكن مختلفة ،
انا اعمل فى الحقل الثقافى بالإدارة العامة للبرامج الثقافية للتلفزيون المصرى ، وهم فى  الهيئة العامة للكتاب ، ثم أصبحت سريعاً مسؤلاً عن تغطية نشاط الهيئة برامجياً،
فقدمونى للراحل الدكتور سمير سرحان وبعض الشخصيات الآخرى ، كان ضمنهم الشاعر محمد أبو دومة الذى أهدانى ديوانه ( تباريح أوراد أهل الجوى ) اصدار الهيئة العامة للكتاب .
وقتها كان شاعرى الأثير الشاعر الكبير أمل دنقل ، وبحكم فورة الشباب كنت أرى ان دنقل هو الشعر والشعر هو دنقل ،
والشعر دون ثورة ودون ألم ودون محاولة لتغير الواقع هو محض أدعاء ، وكنت اردد أشعاره فى أغلب المناسبات وبالطبع كانت قصيدتهُ ( لا تصالح ) أشهرهم
وكانت القصيدة أقرب للمزاج العام وأقرب للمعارضة السياسية التى تستهوى شاباً فى مقتبل العُمر ينشدُ التغير ويصبو لعالم أفضل ، ولا يستطيع بحكم اندفاع الشباب أن يحكم على الأمور بإتزان .
بعد قراءتى لديوان أبو دومة والذى كان عبارة عن قصيدة طويلة اكثر من مئة صفحة تشكلت وتكونت من ألاَمْ عاشق يكابد الوجد بأوراد نثرية أقرب الى أوراد السادة الصوفية الكبار .
بدأتُ رحلة البحث بعدها عن ماهية التصوف ، ثم التردد على مشايخ الطرق الصوفية حول مساجد (آل البيت ) رضى الله عنهم وأرضاهم ،
تقلبت بين القراءة عن التصوف وبين الطرق المختلفة ، حتى وقع فى يدى الأعمال الكاملة للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور فوجدته يفرد جزءً كبيراً من كتابهِ ( حياتى فى الشعر ) للربط بين الشعر والتصوف من حيث الالهام والانوار والبوادى
واللاوامع والوارد والبادى وكلها مصطلحات لأهل الحب الإلهى ، لا يينطق بها الا صاحب قلب لا يشغله الا ذكر الله سبحانه وتعالى ،
فزاد شغفى بالتصوف وتعمقت أكثر فى القراءة ، وأسَرَتْنى ( مأساة الحلاج لعبد الصبور ) وحفظت مقاطع كاملة منها ، وكانت تغالبنى دموعى فى نهاية المسرحية لمصير الحلاج الذى استبد به العشق الإلهى فأباح بالسر الخفى بينه وبين خالقه فقتل ،
وكنت اتمثل نهاية الحلاج المأساوية وأسقطها على كل محب صادق وكنت أرى فى نهاية الحلاج تفسير لعدم العدل فى الدنيا ثم عرفت بعد ذلك ان الحلاج مرفوض من أهل التصوف الصادقين ،
لكنى ظللت أحب مسرحية مأساة الحلاج كعمل أدبى . كانت تنازعنى الدنيا برغباتها فى اخلاصى للتصوف لكنى احتفظت بشيئ من الأوراد التى تعلمتها من بعض الطرق التى ترددت عليها مع تحفظى على بعض التصرفات منهم التى كانت لا تتماشى مع فكرى وعقلى
مثل ( الموالد ورفع الرايات وأختصار فلسفة التصوف فى البحث عن المعجزات )
وعجز عقلى وقتها عن إيجاد تفسير مُلاءم  ْللتوفيق بين حقيقة التصوف كمذهب ينشغل بتربية الروح وتهذيب الجسد وبين بعض تصرفات أهل الطرق التى تعكس غير ذلك .
ثم ابتعدت لكنى ظللت أقرأ فى سير الصالحين المعاصرين فوجدت أغلبهم أقرب إلى المذهب الصوفى وبعضهم يعتنقه كمذهب للدين والحياة امثال ( شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود ، الشعراوى ، دكتور / على جمعة مفتى الديار المصرية السابق ، فضيلة الامام الاكبر الدكتور الطيب وغيرهم ) من كبار علماء المسلمين .
إلى أن اهتديت عن طريق صديقى المهندس النابه ( عمرو عباس ) الى غايتى العقلية فأهدانى مجموعة من الكتب لمولانا الشيخ الدكتور محمد زَكِىّْ الدين الشاذلى صاحب العشيرة المحمدية ومؤسسها .
فوجدت فى هذه الكتب وهذة العشيرة ضالتى فى فلسفة التصوف الحقيقية وتربية الروح على أفضل مايكون والابتعاد عن كل المظاهر التى تبتعد عن حقيقية الدين ،
و التى تسيئ لأهل التصوف الحقيقيين . فوجدته فى صدر كتبه يؤكد على أن الشريعة والقران الكريم والسنة النبوية هما المصدر الاساسى للفكر الصوفى النقى الخالص لوجه الله تعالى .
كما استطاع مولانا الامام محمد زَكِىّْ الدين ان يضع الاسس الصحيحة للتصوف بوضع لائحة تعتمد كل ماهو صحيح فى التصوف وتنفى كل المظاهر الفاسدة الدخيلة على هذا المذهب الروحى النقى ،
وكان ذلك مبكراً فى أربعنيات القرن الماضى ، فكرمت الدولة الدكتور زَكْىّ الدين بوسام الدولة والعديد من شهادات التقدير ،
وبعد إنتقاله الى مولاه تولى العشيرة المحمدية أستاذ دكتور / محمد مهنا استاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر ومستشار شيخ الازهر الدكتور الطيب ،
فأنشأ فضيلة الدكتور مهنا أكاديمية علوم التصوف التابعة لجامعة الازهر بالمقطم ، ويتولى أيضا التدريس بها هو ونخبة من علماء هذا العصر .
يأخذنى الشوق الى مجلس العلم بالبيت المحمدى أجلس بين يدى شيخى الدكتور مهنا صاحب العلم الغزير والقلب الكبير وهو يشرح كتاب الحكم العطائية لسيدى ( ابن عطاء الله السكندرى ) ،
فتشف الروح ويطمئن القلب وتزرف العبارات ونحلق فى سماء الايمان ولانعود الا بعد تنتهى المحاضرة .
يارب لقد اعطيت ومننت عليا بنعمك الكثيرة التى لاتعد ولاتحصى .
ارجوك ياكريم ان تجعل قلبى دائم الحضور فى حضرتك
وان تجعلنى خالص الذكر لوجهك الكريم وقنى عذاب الجفوة وغربة الغفلة واجعلنى من الصالحين
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.