” الكفيل ” قصة قصيرة للدكتور محمد المنشاوي

بعد أن أنهيت جلستي مع بعض الأصدقاء والتي كانت في منزلي ليلاً، ذَهَبْتُ إلى غُرفة نومي، وبدَّلْتُ ملابسي استعدادًا للمبيت، وقبل أن أضع رأسي على الوسادة دَقَّ جرسُ الهاتف، أمسكْتُ بالسمَّاعة وتكالمنا :

أنا : ألو

هو : السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، معكم على الهاتف شركة (م) لتسفير الكفاءات المصريَّة للخارج .

أنا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً بكم .

هو : نريد التحدُّث إلى الأستاذ علي المصري، المدرِّس لمادة اللغة العربيَّة الذي قدَّم طلبًا لدينا أبدى فيه رغبته في السَّفَر إلى إحدى دول الخليج العربي .

أنا : هو بعينه معكم على الهاتف .

هو : أستاذ علي، عليكم تشريفنا في الغد لإجراء مقابلة شخصية مع الكفيل الخليجي، وذلك في تمام الساعة الثانية ظهرًا .

أنا : على الرَّحب والسِّعة، وما عُنوان الشركة بالتفصيل ؟

هو : 21 شارع السخاوي المتفرِّع من المقريزي، روكسي، مصر الجديدة .

أنا : شكرًا جزيلاً، وانتهت المكالمة .

وفي الصباح ركبت القطار القادم من الصعيد الجوَّاني، المتَّجه إلى القاهرة، وبعد بضع ساعات وصلت إلى محطة رمسيس، وعلى عادة الصعيدي يجد نفسَه تائهًا في زحام القاهرة فهو لا يدري أن يخطو خطوة من غير سؤال

وفي حينها تذكَّرتُ مثلاً شعبيًّا كانت جدَّتي تذكُرُه لي دائمًا وأنا طفلٌ صغير ” الغريب أعمى ولو كان بصير ” ولم أفهمه في طفولتي وفهمته في القاهرة، وبصعوبة توصَّلتُ إلى مقر شركة التسفير فإذا بها ممتلئة عن آخرها ” ترش الملح مينزلش ” من كثرة الجموع الموجودة؛

جموع اللغة العربيَّة بكليَّاته المتنوِّعة، وجموع اللغة الإنجليزيَّة بفئاتها المختلفة، وجموع الرياضيات، والفلسفة، وخريجوا كليَّات العلوم، والدراسات الاجتماعيَّة، والتربية الرياضيَّة، والحاسب الآلي، وهلم جرًا .

حتى ظَنَنْتُ أنَّ وزارة التربية والتعليم المصرية ستنتقِلُ بمبانيها وجدرانها ومدرِّسيها إلى خارج مصر،   وتساءَلْتُ : أمِصرُ سيِّئة إلى هذا الحد ؟

وتساءَلْتُ ثانيةً : هل فَقَدَتْ مصرُ عاطفة الأُمومة فلم تُرضِع أبناءَها فرضعوا من ثديٍ آخَر أكثر عاطفةً وأغزر لبنًا ؟

وبعد ساعات من الانتظار مرَّت أثقل من الجبال، جاء دوري لمقابلة الكفيل فدققتُ باب حُجرته فأذِنَ لي بالدخول، وفتحتُ الباب فرأيتُ غرفةً تذكِّرُني بغُرف القصور الخديويَّة جمالًا وأُبَّهةً،

ورأيتُ بها شخصًا جالسًا على كُرسيه، مستلقيًا بظهره إلى الوراء، يضعُ فوق أنفه منظارًا، وبين شفتيه أحد أفخر أنواع السجائر، ورأيته واضعًا قدمه اليمنى على قدمه اليسرى في كبرياءٍ وشموخ، تقرأُ الأنَفَة من عينيه، وأمامه منضدة تحمل فوق متنها زجاجات الماء المعدني المثلَّج، وأطباق الفاكهة النادرة الوجود

في مثل ذلك الوقت فكأنَّها زُرِعَت خصِّيصًا له وفي غير أوانها، وراح يفحصني بمنظاره في صمت من أخمص قدمي إلى مقدِّمة رأسي، حتى شعرتُ بأنَّني أمام نخَّاسٍ في سوقٍ من الرَّقيق أُباعُ وأُشتَرَى، وقَطَعَ صمتَهُ قائلاً وهو يأكُل

أيش تدرِّس يا شيخ ؟

فأجبته : أدرِّسُ مادة اللغة العربية بإحدى المدارس الإعداديَّة بصعيد مصر.

وبعد أن وجَّه لي عددًا من الأسئلة المتنوِّعة التي أعدَّها له مسبقًا – من دون شك – أحد أساتذة اللغة العربيَّة من المصريين  في مادة التخصُّص كأسئلةٍ في النحوالعربي، وأخرى في البلاغة العربيَّة والصَّرف والعَروض،

والتي أجبت عن أكثَرها، وأخفَقْتُ في القليل؛ لاحظتُ أمارات الهزيمة على وجهه، وراح يسألني أخيرًا في غرورٍ واستعلاء : ليش تبغى السَّفَر للخليج ؟ ولم يتركني أجيب هذه المرَّة فقد سأل وراح يجيب :

بالطبع لأنكم فقراء معدمون ونحن أغنياء ثريِّون ” فصَدَقَت فراستي فيه فلم يكن غير نخَّاسٍ يريدُ أن يشتريني بماله فترَكْتُه وخَرَجْت ساخطًا عليه وعلى السَّفَر وعلى المسافرين وتمسَّكتُ بأُمِّي مصر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.