” حصاد الصبر ” .. قصة قصيرة للأديب محمد الشرقاوي

لون شاحب يعم جوانب البيت ، الستائر تفصح عن أشباح توشك أن تنقض على ما حولها ، حجرة الصالون تشكو من العزلة وكأنها في منفى ،
الكراسي تبدي تذمرها وضيقها وتتسائل : لماذا اختفى الزوار من الأهل والأقارب ؟
الثلاجة تشكو من الفراغ القاتل ، حتى التلفاز بكل برامج التسلية لم يعد يجذب انتباه حسناء التي كانت قبل زواجها تحظى بنصيب وافر من اسمها ،
أما الآن فقد صارت وردة ذابلة وكسا الشحوب وجهها وباتت يائسة من كل ما ترى عيناها إلا هذا الشبل الصغير ” فارس ” ثمرة زواجها من صالح منذ تسع سنوات ، فهو ثروتها وكنزها في تلك الحياة المتوحشة .
تمضي عيناها ذهابا وإيابا بين زوجها صالح وابنها فارس ، فالأول يتهيأ للذهاب إلى المقهى لمشاهدة إحدى المباريات الهامة مع أصدقائه بعد أن وضع في جيبه مصروف البيت لهذا اليوم دون أن يسألها عما يحتاج البيت أو ما يحتاج ابنه الوحيد ،
أما الآخر فقد عاد لتوه من مدرسته وانكب على واجباته يؤديها بكل حماس وشوق رافضا أن يستريح قليلا أو حتى يغير ملابسه قبل أن يؤدي ما عليه من واجبات يعشقها وينال بها إعجاب وتقدير معلميه الذين يمنحونه ثقة عالية وتشجيعا متواصلا حتى يحافظ على مكانته بين أوائل الفصل والمدرسة .
تقترب حسناء من صالح قائلة : هل تركت لنا مالا لشراء ما نحتاجه اليوم ؟ يتغير لون وجهه ليكسوه احمرار شديد يزيد من قسوة ملامحه وضيقه قائلا لها : ليس معي إلا ما يكفيني لمشاهدة المباراة وحساب المشروبات وشراء السجائر .
تكظم غيظها وهي تعلم أنه يدخر أموالا طائلة معظمها في البنوك وبعضها في محلاته التجارية ، فقد قضي خمسة عشر عاما في بلاد البترول قبل أن يستقر ويتزوج ولكنها لا تفصح عن ذلك خشية بطشه وقسوته .
تعيد السؤال بكلمات مختلفة وبصوت مرتعش : وماذا نصنع عندما نريد شيئا ما ؟ ينظر إليها بكل سخرية ثم يلقي في وجهها قنبلة مدوية تزلزل كيانها بعنف شديد : يمكنك الذهاب إلى بيت والدك أو الاتصال به لطلب ما تريدين .
تعود حسناء نحو ابنها وهي تجر أذيال الخيبة والتعاسة والدموع تنهمر من عينيها ولا تكاد قدماها النحيلتان تحملانها ، تجلس بجواره ، تنظر إليه ،
تتسائل في صمت : كيف يكون أبوك صالحا ؟ إذن فمن الفاسد والمفسد ! لقد تحملني أبي كثيرا وساعدني بكل ما يملك وأوصاني بالصبر من أجلك يا مهجة الروح ، وما زال يوصيني بذلك لأنه يحبك ويتوقع لك النجاح ويراك عوضا لي عن أبيك الذي لن أسامحه أبدا .
ينظر فارس إلى أمه فيرى شرود ذهنها وملامحها اليائسة ، يقترب منها ، يربت على كتفها ثم يحتضنها بقوة قائلا : لا عليك يا أمي ، فلن يخيب الله ظنك في ،
وإني لأعمل وأجتهد حتى أحقق لك كل ما تحلمين به ، لقد كرمتني المدرسة اليوم في طابور الصباح بعد تلاوتي آيات من القرآن الكريم وأيضا إجابتي عن جميع الأسئلة التي وجهها مشرف الإذاعة لطلاب المدرسة ،
وهذه شهادة بدرجات الشهر ، لقد حصلت على المركز الأول ، تزداد دموع الأم فيمسحها فارس بكفه ويلح عليها أن تبتسم فتلبي رغبته ويبادلها ابتسامة حانية تخفف عنها ما تعانيه ، ثم يقدم لها عشرين جنيها قائلا : أمي الحبيبة ، لقد أدخرت هذا المبلغ من مصروفي اليومي .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.