جيهان عبد الرحمن تكتب : عندما تنقلب الموازيين

في أحد اللقاءات المتلفزة مع الفنان فؤاد المهندس رحمه الله قال أن والده الأستاذ زكي المهندس وهو أحد رواد الحركة التعليمية في مصر, انتابته حالة غضب شديدة بعدما شاهد أداء الفنانة شويكار في فيلم أنت اللي قتلت بابايا, أنتاج 1970 قصة وحوار بهجت قمر وسيناريو عبد الحي أديب, قال له نحن نبني ونحافظ علي اللغة العربية وأنتم في فيلم واحد يستغرق ساعتين من الزمن تهدموا ما بنيناه في سنوات بدعوي الفن والكوميديا, وكانت شويكار في هذا الفيلم وغيره من الأفلام تلوي حروف الكلمات لتنطقها بمزيج من الدلال لتخرج بعيدة كل البعد عن اللغة العربية العامية أو الفصحي, ضحكنا واستمتعنا لكن المؤكد أنها كانت خطوة علي طريق انهيار اللغة واختلال الموازين وللأسف شارك فيها الجميع.
وصلنا إلي أغاني مهرجانات بكلمات تافهة وربما مسفه وأخري تنتمي لقاموس الشتائم الصريحة, وبدلا من محاولات علاج الأمر بالارتقاء بالذوق العام, أو التفكير في بدائل إيجابية, خاصة لو اكتشفنا بقليل من البصيرة أن هناك خطة ممنهجة للهدم, وأن التفاهة والإسفاف أحد أهم طرق الثراء السريع والتقدير المحلي بدليل استضافة مذيع شهير لشاب اسمه سوسته الباحث عن البطة في أغنية شيماء, والتقدير العالمي بحصول بيكا وغيرة علي سيف ذهب ودكتوراه فخرية في هدم مباشر, مع سبق الإصرار والترصد لقيمة العلم والتعليم والتعلم الذي يعيش في أزمة حقيقة في بلادنا, جعلتنا في ذيل قائمة الجودة, وطريق النهوض به ما زال ضبابيا.
وتتوالي هزائم اللغة العربية, تارة أمام الفن الهابط بدعوي أنه ينقل الواقع, دون أن ينتبه أنه خلق أصلا للارتقاء بهذا الواقع وتهذيبه باعتباره قوة ناعمة ومؤثره. وتارة أخري أمام زحف اللغات الأجنبية علي حساب اللغة العربية ومحاولات طمس الهوية والتغريب,
ويكفي نظرة سريعة علي اللافتات الإعلانية علي الطرق, ناهيكم عن فوضي أسماء المحال التجارية حتي لو كان مجرد دكان صغير في أخر أركان القرية لكن أسمه سوبر ماركت, ولا تتعجب لو كانت تلك القرية بالمصادفة تسجل معدلات متقدمة في الأمية بين الكبار , و تسرب الصغار من التعليم, مما دعي الحكومة إلي التفكير في علاج التسرب بفرض عقوبات قاسية وغرامات كبيرة علي ولي الأمر الذي يتسرب أبنه أو أبنته من التعليم, لكنهم لم يضعوا احتمال واحد أن يكون التسرب بسبب الفقر أو عدم قدرة ولي الأمر علي نفقات التعليم ومصاريف المدارس من حيث الأصل, أضف إلي ذلك تراجع قيمة التعليم والشهادة الجامعية التي كانت الاسر المتوسطة تحرص علي تحصين أبنائهم بها لكن مع طوفان الانهيار وإعلاء قيمة بيكا وسوكا وغيرهم انقلبت الموازيين.
وكمن يلقي بحجر في البركة الراكدة, تقدمت النائبة سولاف درويش بمشروع قانون أطلقت عليه أسم قانون النهوض باللغة العربية, هدفه الحفاظ علي اللغة, وحمايتها من الهجمات الشرسة المستمرة وحملات التغريب, المشروع حال إقراره يلزم جميع الجهات العامة والخاصة باستخدام اللغة العربية في نشاطها الرسمي, علي ان يعمل بالقانون بعد 60 يوما من نشره بالجريدة الرسمية.
من مواد المشروع أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في جمهورية مصر العربية ولا يجوز استعمال لغة أخري وتلتزم كل مؤسسات الدولة باستخدامها في نشاطها الرسمي مثل التسجيل في السجلات والعقود والمعاهدات والاتفاقات والعطاءات والمنشورات واللوائح والقوائم الخاصة ولوائح الأسعار والمعلومات المتعلقة بها وكل المعلومات الخاصة بالمصنوعات والمنتجات المصرية التي تصنع بشركات أجنبيه , وعقود العمل والتعليمات الصادرة من الدولة واللوائح الخاصة بها.
كذلك الإعلانات المسموعة والمكتوبة والمرئية الموجهة للجمهور والإعلانات التي تبث علي الطريق العام. ويجوز ان تضاف ترجمة لها بلغة اجنبيه علي ان تكون اللغة العربية أكبر حجما وأبرز مكانا. وأن يكون اجتياز امتحان اللغة العربية شرطا أساسيا للتوظيف.
صحيح أن توصيات مجمع اللغة العربية سنويا لا تخرج عن هذا المعني منذ تأسيسه في عهد الملك فؤاد الأول عام 1932, وبدء عمله الرسمي عام 1934 , وبعد 97 عاما من عمره, ما زلنا ندور في فلك توصياته, بمشروع قانون للحفاظ علي هويتنا, وبعد مضي284 عاما علي إنشاء أول وزارة للمعارف في مصر والعالم العربي باسم ديوان المدارس, أنشئت عام 1837, لكن شويكار وبيكا وسوسته وغيرهم من الأصابع الظاهرة والخفية نجحوا في قلب الموازين التي باتت في حاجة ماسة لثورة تصحيح عاجلة رسمية وشعبية يكون فيها التعليم واللغة والهوية علي رأس أهدافها.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.