اللواء دكتور سمير فرج يكتب : لقاء بعد ثلاثين عاماً

اللواء دكتور سمير فرج
منذ ما يقرب من ثلاثين عاماً، كنت واحداً من أعضاء أحد الوفود العسكرية المصرية، في زيارة رسمية إلى فرنسا، خصصت خلالها وزارة الدفاع الفرنسية، أحد ضباطها، وهو الكولونيل إيمانويل، ليرافق الوفد، طوال مدة الزيارة، التي امتدت لأسبوعين كاملين، توطدت خلالهما صداقتي به، حتى غادرنا فرنسا، ولم تتح لنا فرصة اللقاء بعد ذلك.
ومنذ أسبوعين، تقريباً، تلقيت مكالمة من أحد ضباط القوات المسلحة المصريين، القائمين على تنظيم المعرض الدولي “إيديكس 2021″، يخبرني خلالها أن أحد أعضاء الوفد الفرنسي، الممثل لواحدة من الشركات الفرنسية، يريد أن يتحدث معي، فكانت المفاجأة أنه العقيد الفرنسي إيمانويل، الذي تقاعد من الجيش الفرنسي، منذ سنوات، ويعمل، حالياً، رئيساً لواحدة من كبرى شركات المعدات الحربية الفرنسية، والمتواجد، حينها، بالقاهرة، للإشراف على مشاركة شركته في معرض إيديكس.
وما أن التقط الهاتف، حتى صاح قائلاً إنه يريد رؤيتي، فتوجهت، على الفور، إلى أرض المعارض، لألتقيه بعد ثلاثين عاماً، وجلسنا في أحد الكافيهات في المعرض، المجهز في الحقيقة، على أعلى مستوى، لخدمة العاملين به والزوار. امتد لقاءنا لثلاث ساعات متواصلة، أخبرني خلالهم أن وصل لي من خلال صورة جمعتنا، خلال زيارة فرنسا، ولما عرضها على بعض الضباط المصريين، تعرفوا عليّ، وأوصلوه بي. خلال تلك الجلسة، لاحظت أن صديقي، إيمانويل، تناول ثلاث مشروبات، وهي الخروب، والمانجو، ثم السحلب، فسألته “كيف عرفت تلك المشروبات، فأجابني، ضاحكاً، أن ذلك ليس كل ما عرفه من مصر، بل أن إفطاره، اليومي، منذ وصوله للقاهرة، من أسبوعين، هو الفلافل والفول.
ثم أخبرني أنه تعلم كل ذلك من خلال السائق، المصاحب له في القاهرة، وهو شاب مصري اسمه رامي، تخرج في الجامعة الفرنسية، بالقاهرة، ويتحدث الفرنسية بطلاقة، وأنه يعمل على سيارته الخاصة، لتوفير مصروفات دراسته، الحالية، للحصول على درجة الماجستير، أملاً في تحقيق حلمه بالحصول على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون، أعرق الجامعات الفرنسية. مضيفاً أنه أمام إصرار، الشاب رامي، وطموحه، فقد قررت إدارة شركته تحمل مصروفات حصوله الدكتوراة من السوربون. ثم ذكر لي أنه زار مع رامي الكثير من أحياء القاهرة، خاصة القديمة، ولفت انتباهه أن رامي قد ضل طريقه، ثلاث مرات، خلال تلك الزيارات، وعرف منه أن السبب يرجع للطفرة الحادثة في شبكة الطرق والكباري المصرية، التي تتطور بمعدل سريع، يجعل من الصعب ملاحقتها.
وتابع، إيمانويل، حديثه في الإشادة بروعة بلادنا، وحُسن استقبال أهلها لضيوفهم، معقباً عن انبهاره بالمستوى المتميز لتنظيم معرض “إيديكس”، وهو من يشارك في عشرات المعارض الدولية، كل عام، كلها من أكبر المعارض العسكرية في العالم، إلا أنه لمس ضخامة التنظيم، والانتباه لجميع التفاصيل والخدمات المقدمة للعارضين، سواء الإدارية أو الجمركية، لدخول معروضاتهم من المعدات والأسلحة، إلى مصر، وهو ما يسر مشاركتهم في هذا الحدث الدولي الهام.
كان معرض إيديكس قد شرُف بافتتاح السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالفعل، قبيل لقاءنا هذا، واتيحت، لصديقي، الفرصة للاطلاع على الإنتاج الحربي المصري، وهو ما جعله يسألني عن سر التفوق فيه، وهو المتابع للشأن العسكري، بحكم خبرته السابقة، وعمله الحالي، ويعلم أن مصر حققت طفرة، في هذا المجال، في فترة وجيزة. فأجبته، ببساطة، أننا بدأنا التصنيع الحربي، مع بداية عهد الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، في خمسينيات القرن الماضي، وحققنا انطلاقة كبيرة، بإنشاء مصنع الطائرات في حلوان، بالتعاون مع الهند، حتى مُنينا بهزيمة 67، وفقدنا معظم عتادنا الحربي، فتوقفت عجلة التصنيع الحربي، واتجهنا لاستيراد الأسلحة من روسيا، بينما الهند، التي بدأت معنا، وصلت لإنتاج الطائرة المقاتلة النفاثة.
واستقرت الأمور، مع الأسف، على ذلك الوضع، حتى تولي الرئيس السيسي، حكم البلاد، إذ اتخذ قرارين، هامين، في تاريخ العسكرية المصرية؛ أولهما، تنويع مصادر السلاح، بعد ما يزيد عن أربعة عقود من الاعتماد على السلاح الأمريكي. أما الثاني، فكان تطوير المصانع الحربية، وتعيين اللواء محمد العصار وزيراً للإنتاج الحربي، لتنفيذ ذلك القرار. وفي خلال عامين، وبعد سنوات من القصور، شهدت، كافة، المصانع الحربية تطويراً جذرياً، في بنيتها الأساسية، لتضاهي مثيلاتها الأوروبية، لتبدأ المرحلة الثانية، بنقل التكنولوجيا الحديثة للصناعات الحربية المصرية، اعتماداً على ما للمصريين من خبرة، فريدة، مكتسبة من حرب أكتوبر 73.
فبفضل من الله، ثم حكمة القيادة السياسية، نجحنا، خلال الثلاث سنوات الماضية، في إنتاج أحدث الأسلحة، في الترسانة العسكرية العالمية، ليس، فقط، لأغراض التصدير، بل أيضاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي، مبدئياً، على مستوى الوحدات المقاتلة. مع الالتزام بالتطوير، من خلال نقل التكنولوجيا، مثلما حدث عند شراء الفرقاطات، من إيطاليا، إذ قمنا بتصنيعها، في نفس الوقت، في الترسانة البحرية بالإسكندرية. وهم ما لمسه، صديقي إيمانويل، بنفسه، وأعرب عنه بقوله، “أنا، فعلاً، لم أصدق حجم التصنيع الحربي، الذي رأيته، هذه المرة، في مصر”.
وعلى صعيد متصل بما تشهده مصر من تطوير، في عهد الرئيس السيسي، أضاف، إيمانويل، أنه تابع حفل افتتاح طريق الكباش بالأقصر، بينما تابعته زوجته، في باريس، وانبهرا بما رأياه على القنوات العالمية، فقررا قضاء إجازاتهما القادمة، في يناير المقبل، بالأقصر للاستمتاع بسحر بلادنا وعظمتها … وانتهى لقاءنا، وعدت إلى منزلي، وأنا أردد، بسادة، “يجعلك عمار دائماً يا مصر”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.