الأقصر أجمل مدن العالم، ليس في رأيي، ولكن بشهادة التاريخ الذي جعلها منارة الإبداع والحضارة، واعتبرها عاصمة العالم القديم لألاف السنين.
وشاءت الأقدار أن يتم تعييني رئيساً لهذه المدينة العظيمة، التي تحتضن ثلث آثار، العالم لمدة سبع سنوات، تحولت فيهم من مدينة إلى محافظة، لأول مرة.
وفي يوم حلف اليمين شد الرئيس الأسبق مبارك، على يدي وقال ” أنا عاوز الأقصر أحسن مدينة في الدنيا”، فكان ذلك تكليفاً، صريحاً لي.
ووصلت الأقصر … وبعد يومين من الاستقبالات البروتوكولية، قررت التجول في المدينة، فكانت الصدمة!! كانت المدينة في حالة مزرية، بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ؛ تسودها العشوائية،
حتى إن معبد الكرنك، أكبر أثار العالم، لم يسلم من تجول المواشي بين أركانه، وتعدي المبان العشوائية على جدرانه، دون أدنى احترام لمكانته. وكانت شوارع المدينة مضرب المثل في القذارة، ووسائل النقل بها، ومنها المعدية بين البرين الغربي والشرقي، لا ترقى لنقل البهائم، وليس البشر!
وعدت إلى مكتبي، وأغلقت بابه عليّ، وناجيت ربي سائلاً إذا ما كان اختياري لهذا المكان المستحيل إصلاحه عقاباً منه، وهل ستكون تلك المسئولية سبباً في هدم تاريخي، الذي اجتهدت في بناءه، بأن كنت، دوماً، في المركز الأول، بامتياز، في كل دراساتي، والأول في كل قيادة توليتها مخلفاً منها نجاحات؟
بعدها خاطبت روح أمي، رحمة الله عليها، التي تركت لي إرثاً عظيماً من الدعاء، أحسبه سبباً في توفيق ربي لي. وسألت نفسي عما سأفعل في هذا المكان، بعدما لمسته من وضع متدني لا يتخيله بشر.
وجلست ساعات أفكر، حتى حل وقت الغروب، ففتحت النافذة، ورأيت الشمس تغرب على البر الغربي، لمدينة الأقصر، حيث مقابر ملوك وملكات مصر القديمة، أمام نيلها العظيم، رمز الخير والحضارة، فقلت لنفسي، أنا حفيد هؤلاء العظماء، ولن أخذلهم بعدم الحفاظ على حضارتهم التي أبهرت العالم. وحينها عاهدت نفسي أن أبذل قصارى لإعادة مجد هذه المدينة العظيمة … الأقصر … عاصمة الحضارة المصرية الفرعونية والعالم كله.
وفي الصباح التالي بدأت عملي بعزيمة من يدين بالفضل لبلاده التي كرمته، مراراً، وراجعت مع نفسي الأسس العلمية التي درستها بالولايات المتحدة الأمريكية، أثناء حصولي على دبلوم إدارة الأعمال، وأولها أن أساس أي عمل جديد هو الخطة المستقبلية، التي تمتد إلى 30 عاماً، مقسمة إلى مراحل،
ووضعت ورقة أمامي، وكتبت العنوان … “خطة تطوير الأقصر حتى عام 2030”. ولأن الخطط قوامها المعلومات والبيانات، طلبت من جميع وكلاء الوزارات في المحافظة، إمدادي بالبيانات، كل فيما يخصه.
وفي منتصف نهار ذلك اليوم، كانت المفاجأة، بأن وجدت في أدراج المحافظة خطة لتطوير الأقصر، وضعها، بالفعل، البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة (UNDP)، منذ خمس سنوات،
كان قد تم إعدادها بمعرفة الدكتور أيمن عاشور، نائب وزير التعليم العالي، حالياً، ومثلها لأكثر من 20 محافظة في مصر. فنفضت عنها الغبار، وجعلتها نقطة الانطلاق بتحديث بياناتها، وحددت الهدف من تطوير الأقصر، من خلال ثلاث محاور؛ المحور السياحي، ومحور تطوير المناطق الأثرية، ثم محور المشروعات الخدمية للمواطن الأقصري. وكانت البداية في تطوير المناطق الأثرية تعتمد على إعادة فتح طريق الكباش، الذي يربط معبدي الأقصر والكرنك، مع تطوير ساحة الكرنك، ثم نقل سكان القرنة، وعددهم 3250 أسرة، من فوق 950 مقبرة في البر الغربي.
وبناءً على توجيهات الرئيس الأسبق مبارك، حضر السيد رئيس الوزراء الأسبق، الدكتور أحمد نظيف، يصاحبه 12 وزيراً، لمراجعة خطة تطوير الأقصر، وتم اعتمادها، بالفعل، ليبدأ العمل، أو بمعنى آخر لتبدأ المعارك.
وكان أولها عند البدء في تطوير معبد الكرنك، والذي يتطلب إزالة كل العشوائيات أمام ساحته، ومنها ملعب كرة قدم، وبازارات عشوائية، ومنازل بارتفاع أربعة طوابق، على بعد 100 قدم من الساحة، ومنازل للبعثة الأثرية الفرنسية، ومنزل للأثري لوجران، على مدخل الكرنك مباشرة!!!
فدخلت في معركة مع منظمة اليونسكو، وصلت لمطالبتها بإيقاف العمل بتطوير ساحة الكرنك، لحين وصول لجنة من المنظمة، لمراجعة ما يحدث من تطوير، بل ووصل تهديد اليونسكو إلى رفع اسم مصر من قائمة التراث العالمي.
ووصل وفد اليونسكو إلى الأقصر، وعرضت عليه خطة تطوير ساحة الكرنك، وطريق الكباش، ونقل سكان القرنة، وانتهى الاجتماع إلى موافقة اللجنة، بالإجماع، على كل أعمال التطوير،
فانطلقت، على الفور، في التنفيذ، بعدما تولت الوزيرة الرائعة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولي، حينها، ومستشار السيد رئيس الجمهورية، حالياً، حل مشكلة التمويل، وبدأ جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، بقيادة اللواء حسين شفيق، والعميد فرهاد عبد اللطيف ومعاونة الأثري منصور بوريك، في التنفيذ العملي.
تم خلال تنفيذ مراحل الخطة تعويض جميع المتضررين منها، رغم تعديهم، في الأصل، على المناطقة الأثرية، وتم إنشاء أكبر مركز زوار، وساحة انتظار للسيارات، ومنطقة مخصصة للمطاعم والبازارات،
وعاد معبد الكرنك لينعم بساحة عظيمة، تتعامد مع معبد حتشبسوت، في الضفة الغربية للأقصر، كما كان الحال قبل آلاف السنين. وأسفرت خطة التطوير عن اكتشافات أثرية جديدة؛ منها أول ميناء لنقل الأحجار، تم استخدامه لبناء معبد الكرنك، وكذلك الحمامات التي أقامها الرومان عند وصولهم للأقصر، وظهرت تماثيل الكباش، لأول مرة، على مدخل الكرنك.
وحضر السيد باندرين، رئيس التراث بمنظمة اليونسكو، لزيارة الموقع، فلم يصدق ما يحدث على أرض الواقع، ويكفي القول أن” خطة تطوير ساحة الكرنك” فازت بجائزة اليونسكو، في العام التالي، خلال المؤتمر السنوي للمنظمة، الذي انعقد في البرازيل، والتي تسلمتها بصفتي محافظاً للأقصر.
وفي الأسبوع القادم أشارككم معركة وقصة فتح طريق الكباش وتحويل الأقصر إلى أكبر متحف مفتوح في العالم.