لم تكن مواقف الشجاعة والمواجهة غريبة عن عيني مصعب الذي صار شابا فارسا فتيا ، فمنذ نعومة أظفاره وهو يرى الكثير منها حيث كانت عيناه تجمعان تلك الصور والمواقف والأحداث وترسلانها إلى الذاكرة للاحتفاظ بها لحين بلوغه سن الشباب والقوة ، تذكر أيام دراسته الإبتدائية
وبدأ يسرد في صمت أسماء زملائه وأصدقائه المقربين ، كم كان قلبه يعتصر ألما وحزنا عندما يجد مقعدا خاويا فيسأل عن صاحبه فيقال له : لقد قتل في غارة من غارات الغاصب المحتل ، كان الفصل بأكمله يقيم حدادا وتتضامن معه بقية الفصول ، كم كان زميلي هذا نابغا ، كم أخبره المعلم بتوقعه أن يصير عالما كبيرا أو مفكرا مناضلا أو قائدا حربيا مغوارا ، لكن لماذا يقتلون الأمل فينا ؟
ولماذا يصمت العالم الذي يدعي زورا أن لكل إنسان الحق في الحياة الآمنة الكريمة ؟ لابد أن القاتلين والساكتين أيضا من أعداء الإنسانية كلها .
لم تمض سوى دقائق معدودة بعد هذه الرحلة بين شريط الذكريات إلا ويحدث هذا الموقف أمام بيته الذي عاش فيه مع جده وجدته قبل رحيلهما قتيلين بفعل إحدى الغارات الصهيونية ، ثم إعتقال والده وأخويه الكبيرين .
يخرج مصعب من المنزل على صوت والدته التي تتصدى لجنود الاحتلال عند محاولتهم الاستيلاء على بيتها ، تظل السيدة تنهرهم بكل بسالة وشجاعة دون أن تخشى ما بأيديهم من أسلحة ورغم علمها أن الموت ربما يكون على بعد لحظات لكنها ظلت تواصل وتحاول منعهم من الاقتراب نحو الباب .
يلتقط مصعب نبض الثورة والحماسة من إمه الفدائية ويصيح في هؤلاء الجنود الغاصبين قائلا بكل حماس : هل عاش هنا أباؤكم أو أجدادكم ؟ أتحداكم أن تذكروا لي اسم أب أو جد لكم عاش هنا ،
هل تعرفون اسم هذا الشارع أو اسم الحي ؟ هل تعرفون اسم تلك المدرسة المجاورة ؟ هل تعرفون اسم هذه المؤسسة العلاجية التي قصفتموها وقتلتم كل من فيها ؟
يظل في حديثه دون أن تلوح له إجابة من أحدهم ثم يواصل حديثه قائلا : هل تسمعون عن بريطانيا العظمى ؟ أين هي الآن ؟ هل تعرفون التتار والصليبيين ؟ أين هم الآن ؟ عودوا إلى رشدكم لأن كل محتل سيعود إلى حيث أتى إما هاربا أو ميتا .
ظل الجنود يستمعون إليه في ذهول تام من علمه وشجاعته لكنهم لم يجدوا ردا لأي من أسئلته الثابتة القوية ، وبينما هم كذلك إذ يسقط أحدهم برصاص مناضل يتابعهم من خلف جدار تهدم معظمه ، ينتابهم جميعا الهلع والرعب فيفروا هاربين كالفئران في حين يقف مصعب مع أمه حصنين منيعين لحفظ الدار والأرض وعلى وجهيهما علامات الرضا والتفاؤل يرددان بكل صبر وإيمان : الحمد لله ، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم .