(جروح الروح ) للراوى الأديب والاعلامى الكبير (محمود الوروارى)التى صدرت عن بيت الحكمة هذه الايام ،وشرفت بحضور ندوتها التى اقيمت بالأمس السبت آخر شهر يوليو ٢٠٢١ ،بمبنى القنصلية الفرنسية بوسط البلد،
تبدأ الرواية
انت تردد دائما (ان الأشياء التى تنساها تؤثر فينا أكثر من التى نتذكرها ) أول جروح الروح
(منى ) .. قصة الحب التى لم تكتمل لكنها ربما لهذا السبب ظلت قصة خالدة واحد اركان جروح الروح ويقول كاتبنا ان حضورها وهى غائبة اكثر بكثير من حضورها وهى حاضرة،خمسة وعشرون عاما من البعاد ومازالت حاضرة بوجعها…ثم يضيف
أنت تدرك الآن وأنت على أبواب الخمسين أن جروح الروح أصعب بكثير من جروح الجسد التى لها قابلية الالتئام حتى ولو تركت ندوبا!!
اما عن آلام وجروح الروح فيقول : تلك الجروح قد يجف نزفها لكنها لا تلتئم!
يبدأ الوروارى سردا شعريا يأخذك الى ان تعيش معه احداث روايته منذ الوهلة الأولى ،وهو يحدثك طول الوقت بضمير المتكلم ،فما عليك إلا أن تسمعه ، وتواصل معه مسيرة الرواية ،فتعيش أحداث الرواية وانت جزءا منها ، وتقوم بادوار الرواية جميعا ،الطيبة والشريرة
هذا بجعل القارئ مشدودا من اللحظة الاولى ،ويعود بنا الى جبران خليل جبران ، والعقاد وطه حسين والرافعى ، يمزجون الفكر بالحدوتة مع مسحة فلسفية صوفية. وهذا جانب ميتافزيقى ، يترك لك مساحات من التفكير الإبداعي الذى يتماس مع قلوب العارفين الذين عرفوا ، وارتقت ارواحهم!
ووصلوا الى مرحلة البوح والكشف لمكنون الروح ومن جروحها يصلوا للحكمة!
(دى الحكمة قتلتنى وحيتنى ) كما يقول شاعرنا عبد الرحيم منصور.
أحب الرويات التى يكتبها الشعراء لأنهم لا يغوصون فى التفاصيل ، فكثرة التفاصيل مزعجة ، وعندما يكتب الشاعر الرواية فانها فى الاصل قصيدة
ولأنه كما يقول كثيرون الآن زمن الرواية ، فان الشعراء قد طرقوا ابواب الابداع القصصى الروائى القصير او الطويل ، فلديهم ميزة انهم عندما يكتبون، يكتبون الرواية زفرة واحدة او هناك وحدة شعورية واحدة وحالة تستمر منذ بداية الرواية الى نهايتها
وبهذا ارى ان الرومانسية سوف تعود بقوة مع مثل هذه الروايات ، وذلك لاننا الآن وليس غدا فى أمس الحاجة لعودة المشاعر التى دمرتها الرأسمالية المتوحشة او المادية ،حيث اصبح لكل شيئ ثمن ،حتى الابتسامات يوزعونها اذا كانت هناك مصلحة
أما اذا لم تكن هناك مصلحة تنطفئ المشاعر المزيفة سريعا ، انظر الآن تجد ذلك فى الواقع بصورة فجة
يمكن ان تعرف شخصا وبعد ان يكتشف ان مصلحته ليس معك ،فقد كان واهما اول الامر ،ان هناك منفعة ،ولما تيقن انه لا جدوى او منفعة انقلب ١٨٠ درجة ، اصبحت ظاهرة مؤسفة بمجتمعاتنا للأسف الشديد ،، والناس تهرب من الحقائق ويستمرون فى الزيف الذى لا يمس الروح
ولكن الرواية هى حالة مصالحة مع الروح وان تضع امامك روحك وتحاول ان تحاورها ، وتحاول ان تحكى لك روحك عما بداخلها من مشاعر ومن افكار ومن معانى
يعود بنا الوروارى ويخاطب روحه
انت من مصابى الروح لا شيء يفرحك كثيرا .. لا شيئ يحزنك كثيرا ،كل الأشياء تمر هكذا فى منطقة الخدر ،تمر عبر جروح الروح
وقد كتبت اغنية قريبة من هذا المعنى فان الشعراء والأدباء يتأثرون بنفس الواقع لكنهم يبحثون عن حلول ،فلا يستسلمون للواقع ،وبهذا يخلقون واقعا جديدا حتى يتمردوا عليه
ياما عدى نهار وليل
وانت زيك زى النيل
رافض تزعل
خايف تفرح
كاره تبقى بين نارين…
اعود للوروارى ، واقول ان هذه الحالة من الحزن او الندوب او الجروح التى تصيب الروح يمكن ان يكون لها اكثر من تأثير
إما ان تجعل المبدع يثور عليها ويخرجها فى عمل شعرى او ادبى او روائى ، واما ان تقتل الابداع والحياة
وفى الواقع ان الروائى او المبدع ربما يعيش نفس الحالتين معا ، وقليل منهم من يثور على احزانه ، ويصاحبها ، وتنجب هذه الجروح عملا يفيد به الانسانية ،هكذا فعل الوروارى ، وهذه هى ارادة المبدع الذى يعرف لماذا اتى الى هذه الحياة
هل جاء، ليفرح
هل جاء،ليحزن
وهو على يقين ان الابداع فرحا مختلسا ، لذا اختلس مبدعنا من الجروح التى اصابت الروح رواية جميلة تاخذك من اول صفحاتها الى ان تكمل قراءة النص حتى النهاية وبهذا ينتصر الابداع على الاحزان .
تقول الاسطورة المصرية الملهمة للحضارة المصرية ان من يقف امام شجرة الجميز تشف روحه وتعكسها فى ظلالها فى هيئة طائر (البا)
ولانها شجرة البعث والخلود لا تقترب منها الا الارواح الزكية ذات الرائحة الحقيقية ،فلا يستحق الخلود الا الارواح الطيبة ، ولن تصل الارواح الى حقيقتها الا اذا تطهرت وخفت ،حتى تستطيع الصعود الى جبل الخلود ،فلن يخلد الا هولاء الصادقون ، وكى نصل لمرحلة يقين الصدق
لابد للانسان ان تمر عليه عواصف الالام ،هنا يدخل فى التجربة الحقيقية ،فالحياة ليست للفرح وليست للحزن ، ولكن اختبار للانسان ،ولا اختبار حقيقى الا من خلال الروح واتراحها ، هنا فقط نصل للحقيقة.
وسوف اكمل معكم قراءة هذه الرواية البديعة حوارا مع نص الوروارى ليس نقدا ولكن لأن ميلاد الابداع لا يتأتى إلا من ابداع اخر ،ولكى تكتب يجب أن تقرأ !