يقول الله تعالى فى كتابه العزيز ” الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ” صدق الله العظيم ،
الموت هو الحقيقة المؤكدة فى الدنيا ، وللموت حرمة ، وله فى مصر طقوس خاصة ، والمصرى القديم قدس الموت وإعتقد فى فكرة البعث والحساب والخلود ، وللموت فى الصعيد طقوس خاصة ، ولرثاء الموتى فى الصعيد فن يسمى ” العديد “
والعدودة هى نوع من البكاء الغنائى وفيها تذكر مناقب الميت وتعدادها ، وهى الأقرب إلى مقطوعة شعرية بكائية قصيرة تتكون من بيتين أو أكثر وأحيانا تصل إلى أربعة فيما يشبه الرباعية .
ومنذ قديم الأزل كان الصعيد موطنا لـ إستقبال القبائل العربية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية وقوافل التجارة القادمة من دول المغرب العربى وشمال أفريقيا
وكان هناك ميناء بحرى على ساحل البحر الأحمر قرب الحدود المصرية السودانية يسمى ميناء ” عيذاب ” أشهر طرق الحج القديمة ، وكانت تبحر من خلاله أيضا قوافل التجارة ، وكثير من تلك القبائل كان يطيب لها المقام فى الصعيد
وعند الفتح العربي لمصر ، إنتقلت القبائل العربية عن طريق البحر الأحمر من شبه الجزيرة العربية وإنتشرت في الصعيد . ولذلك فالصعيد مشبعا بالكثير من عادات وتقاليد العرب ، ومنها الثأر وغيره . وعندما نشرت هذه القبائل العربية فن الرثاء تحول هذا الفن إلى مقطوعات بكائية بلهجة أهل الصعيد .
الكاتب الكبير خيرى شلبى : رحمه الله ” يرى في مقدمته لكتاب “فن الحزن” أن “العديد ” له أصول مصرية فرعونية ، مستنداً إلى إهتمام المصري القديم بطقوس الموت وإيمانه بعقيدة البعث والخلود .
والحقيقة أن الصور على جدران المعابد المصرية القديمة خلفت لنا صورا ” للمعددات ” أو ” النادبات ” وهن يسرن خلف الجنازة ، وهذا الإعتقاد يؤكده وجود أول معددتين في التاريخ هما إيزيس زوجة أوزوريس ” الذي قتله أخوه بحسب الأسطورة المصرية ” ونفتيس ، أخته .
و” العديد ” هو فن تخصصت فيه المرأة وحدها ، لأنها أكثر رفاهة من الرجال ، وهى الأكثر مقدرة فى العرف الإجتماعى على التعبير عنه ، والمعددة أو المرأة التى تمتهن ” العديد ” عادة ماتكون كبيرة فى السن وتستطيع قيادة بقية النسوة غند إلقاءها العديد بإيقاع سريع وموزون
والعجيب أن لكل فقيد بكائية خاصة به ، فمنها للإبن وللإبنة ، ومنها للزوج ، وللشاب العريس ، والشيخ الكبير . وفى بكائية البنت على أبوها تقول ” ريح يا بويا شوية على المقعد .. خايفة يابويا من وراك نتعب / ريح يابويا شوية علي الديوان .. خايفة يا بويا من وراك نتهان ” .
فكرة الموت مرتبطة إرتباط وثيق بإكرام الميت أى دفنه ، والدفن غالبا يكون فى جبانة وفى واحدة من أكبر جبانات ج.م.ع هى جبانه قرية ” هو ” التابعة لمركز تجع حمادى وتربو مساحتها على الـ 200 فدان وهناك أكثر من 150 قرية ونجع وتابع تدفن فيها
وقد وصفها الباحثون الفرنسيون فى نهاية الخمسينيات من القرن الماضى بأنها إحدى عجائب العالم الحديثة ، لما لها من خصوصية فى بناء شواهد المقابر التى تشبه شكل الجمل حيث ترتفع الشواهد الأمامية وتتحول الى رقبة ترمز إلى عنق الشخص الميت ، وكلما إرتفعت دلت على الجاه وشهامة صاحبها ، هذا بخلاف الزخارف المختلفة وعلاقتها بنوع القبر وصفة المتوفى وعمره .. إلخ .. ولا يسع المقام لذكرها .
و” هِو ” بكسر الهاء وتشديد الواو الساكنة هى قرية أثرية قديمة تقع على بعد ستة كيلومترات جنوب مدينة نجع حمادى على الشاطىء الغربى لنهر النيل الذى يتخذ عند محافظة قنا مايشبه علامة إستفهام ، إسمها القبطى “حات ” أو ” حوت ” ومنه إشتق إسم ” هور ” التى تحول إلى ” هو ” الذى عرفت منذ سنه 1231هـ .
أما إسمها اليونانى فهو ديوسبوليس بارفا Diospolis Parva ومعناها “طيبة الصغرى” واسمها البربائى “هو” Hou وذكرها جوتيه فى قاموسه أن إسمها المقدس Hat Sekhem والمدنى Kenmet .
أما إسمها فى العصرين البطلمى والرومانى فهو ” كمنت ” عاصمة المقاطعة السابعة من مقاطعات الوجه القبلى ومعبودتها الإلهة ” حتحور ” إلهة الحب والجمال والموزسيقى التى كان يرمز لها ” بالصاجات ” رمز الطرب عند الفراعنة ، وإسمها الدينى حوت سيخمو ” أى حصن الإله حتحور ، أو ” أجات سخم ” أى مدينة أو بيوت الصاجات
وتشير مقابر ما قبل التاريخ أن مدينة ” هو ” كانت موجودة منذ العصر الحجرى فقد عثر فى الحفائر التى أجراها عالمى الآثار بترى وكيوبيل عام 1884م فى صحراء ” الهو ” على هياكل بشرية وتماثيل وأوانى فخارية وأدوات زينه ترجع إلى العصر الحجرى الحديث
وعثر أيضا على تماثيل تمثل العبيد الأسرى ترجع إلى أوائل عصر الأسرات كما تشير مقابر ما قبل التاريخ والعصر الفرعونى ان مدينة “هو” كانت موجودة فى ذلك الوقت .
و” هو ” كانت مزدهرة طوال العصر الفرعونى وحتى الدولة المتوسطة ، وفى أثناء حكم الأسرة السادسة كانت ” هو ” قاعدة للإقليم ، ثم يبدو أن قبائل النوبة قد إستوطنتها بعدئذ فى أثناء حكم الأسرة السابعة عشر ، ويذكر بعض علماء الآثار مثل آرثر Arthur ,E,P انه كانت توجد حصون رومانية فى جانب المدينة الذى يطل على الصحراء .
كما إذهرت قرية ” هو ” فى العصر اليونانى والرومانى وأقيمت بها قلعة حربية ومعبد على نهر النيل ، ويظهر الآن ببقايا المعبد مقصورة صغيرة مشيدة لعبادة الإلهه حتحور وعليها نقوش تمثل أباطرة الرومان وهم يقدمون القرابين للإلهة حتحور
كما تحمل المقصورة أسماء أباطرة الرومان مثل بطليموس السابع وبطليموس العاشر والامبراطور ادرين .. إلخ .
أما ” المسجد العمري التاريخي ” والذي بناه القائد الإسلامي عمرو بن العاص حين الفتح الإسلامي لمصر هو واحد من آثارها الإسلامية ، وللأسف تعرض منذ سنوات لـ حريق مدمر أتى على كل معالمه المعمارية ولم يبقي منه سوى السور الخارجي و المئذنة لتكون شاهدة علي إهمال وزارة الأوقاف بآثارنا الإسلامية ، ومن الإهمال الذي تفشي في مفاصل آثار القرية الفرعونية واليونانية والإسلامية التى تتعرض يوميا للنهب والسرقة .