محمد فيض خالد يكتب : المجالس العرفية ودورها المجتمعي

محمد فيض خالد

إنّ قوام نهضة أيّ مجتمعٍ إنساني ، لا تتأتّى إلا في ظلِّ استقرارٍ تام ، يُراعي فيهِ كُلّ طرفٍ ما له وما عليهِ ، وهذا الاستقرار بحاجةٍ مُلحّةٍ لعوامل عِدّة تسهم في استتبابهِ، ولعلّ في إصلاحِ ذات البين ما يكفل هذا وزيادة ، والنّاظر في أحوالِ العباد وتدافعهم الحياتي ، يلحظ نشوب العديد من النزاعات والصراعات والتي تنشأ صغيرة ، وسرعان ما تشبّ نيرانها وتتأجج أحقادها فيجنح أصحابها لفعلِ الأعاجيب ، التي تحرق أغصان المودة ، وتقتلع أشجار الأُلفة بين أبناء البلد الواحد ، قديما احتكم النّاس إلى العُرف الذي يصون الدماء ويحفظ الأعراض والحرمات ، وكان هذا العرف قد فوّض في مثل هذه الخصومات من يُحكِّم العقل ويسيّس الناس بالحكمةِ والصواب ، ويقيم شرعة العدل على خيرِ منهاج ، فينزع الحقّ من يد القويّ ويعيده للضّعيفِ ِ ، ويضرب على يدِ الظالم فيثنيهِ عن ظلمهِ ، ليكون عبرة لمن تُسوِّل له نفسه اقتراف العدوان ، وبهذا ولاشك يسود العدل ، وتسكن الأحقاد ، ويُحفظ ما بين النّاسِ من مظاهرِ الاجتماع ، ويعرف الجميع أنّ المجتمع بهِ من الضمانات ما يكفي لأن يحيا أهله حياة طيبة .
ولعلّ ما لعبته ” المجالس العرفية ” وخاصة في ريفنا المصري الأصيل ، من أدوارٍ مجتمعية مشهودة ، وما قامت بهِ تاريخيا من جهود مثار إعجاب ، ومبعث فخرٍ ومحطّ إشادة ، حتى أضحت _ في أحيانٍ كثيرة _ بديلا عن الجهات المعنية ، ومكملا لجهود الدولة المصرية التي لا تدّخر وسعا في حفظِ الأمن ، وملاحقة الخارجين عن القانون ، وفرض هيبتها وسلطتها ، وفي هذه الوظيفة تتجلى روحها كصمام أمانٍ لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عن مكانتهِ ، ولا أدلّ على ذلك من اعتماد المؤسسات الرسمية بالدولةِ على هذه الكيانات في اقتلاعِ بؤر الخلاف ، وإنهاء العديد من الخصومات في مهدها ، من هنا كان لزاما على الجميع مساندة خطواتها ، وإفساح المجال واسعا لتقول كلمتها الفصل ، ومنحها ما تستحق من الرعاية والاحتضان ، ونظرة إلى هذا التاريخ الحافل يطمئن قلبك ، فهي الأولى بخلقِ حالةٍ من الطمأنينةِ المجتمعية ، ربما كان هذا العبئ حافزا قويا ، يزيد من أحمالها ، ويفرِض عليها ان تنظر بعنايةٍ في اختيار الأصلح من أفرادها ، وتلمس الأقدر على حمل أمانةِ هذه المسؤولية ، واحتضان الأصدق نية القادر على تعزيز الثقة ونزع فتيل الاحتقانِ بين طرفي النزاع ، ساعتئذٍ لا خوف من أن تنحرف كفة ميزانها ، لطرفٍ دون آخر ، أو أن يتسلط هوىً في نفسٍِ مريضة يضّيع الحقوق ويبدّد المقدرات .
وإنّي لأنظر بعينِ الأسى لحالِ قرانا اليوم ، وقد حُرِمت ثمرة هذه الكيانات المجتمعية الصادقة ، فأجده وقد انحدر انحدارا أخلاقيا سحيقا ، يضرب صغيره بكلامِ كبيره عرض الحائط ، وتضيع_ جهارا _ فيه حقوق الضعيف حين أوكلها لمن لا يرعى للمجالس أمانة ، ولا للأعرافِ مكانة ، ولا للحق والعدل حرمة ، فحابى الغني على حسابِ الفقير بكُلِّ فظاظةٍ وتغوّل. ،
ولولا أولي بقيةٍ من أولئك المخلصين لكان هناك شأن آخر .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.