ذهبت إلى مكتب بريد ” الرماية ” لشراء إقرارات ذمة مالية ، وقفت فى طابور طويل إلى أن حل على الدور سألت الموظف عن الإقرار وعلمت أنه بمبلغ ” ستة ” جنيهات طلبت من ثلاثة إقرارت ، وقام الموظف ” بلعق” 48 طابع دمغة حكومية فئة كل طابع ثلاثون قرشا ووضع ستة عشر طابعا على كل إقرار .
الحقيقة أنى ضحكت وكان ذلك سببا كافيا للدخول فى حوار جانبى مع احد عملاء مكتب البريد ينتظر دوره ، خلاصة الحوار كان عن الطريقة التى لاتزال دولتنا الموقرة تتعامل بها مع المواطن فى القرن الحادى والعشرين ، وخاصة وأن هناك دولا لايتعدى تاريخها عمر إسم المكان المقام عليه مكتب البريد ، هى اليوم تضع ماكينة فى الشارع بإمكان المواطن أن يستخرج منها مايشاء ” شهادة ميلاد / وفاة ـ قسيمة زواج ـ رخصة قياده ـ تجديد رخصة سيارة .. إلخ ” فى زمن لايتجاوز العشرة دقائق ، بل ومن الدول من إستطاع إرتياد الفضاء ووصل إلى كوكب المريخ ، ونحن لانزال نتغنى ب” سبعة آلاف ” سنه حضارة .
سألت نفسى سؤال وهل إقرار الذمة الذى كبدنى كل هذه المشقة يمكن أن يوقف أو يمنع الفساد فى مصر ؟
وأنا أعلم تماما أن الفساد أصبح متجذرا فى مصر وأن الجهات الرقابية ” هيئة الرقابة الإدارية ووزاره الداخلية .. وغيرها ” تضبط عشرات القضايا التى يقدر حجم الأموال فيها بالمليارات وأنها لاتألو جهدا فى هذا الشأن ولأن مصر دولة غنية وعين الله تراعاها لايزال المواطن يأكل ويشرب ويجد مايسد رمقه حتى أن دولا كبيرة فى العالم عانت نقصا شديدا جراء أزمة كورونا التى إجتاحت العالم إلا أن مصر والحمد لله لم يشعر مواطن فيها بأن “بصلة” قد نقصت من سوق فى شمال البلاد وجنوبها وبفضل الله .
أتذكر حوارا دار منذ فتره بينى وبين مواطن سعودى طاعن فى السن إلتقينا فى باحات الحرم وعندما علم أنى مصرى بعد أن عدد لى محاسن مصر وفضلها على الدول العربية ، قال لى : مصر أغنى دولة فى العالم وأغنى من السعودية كمان ” وأنا أعلم جيدا دخل المملكة العربية السعودية من النفط وحده ” وعندما عقدت الدهشة لسانى أردف قاءلا إنتو بتتسرقوا من أيام الفراعنة للنهارده ولاقيين تاكلوا وتشربوا وتركنى وإنصرف ، ضحكت وتذكرت هذا الموقف وأنا أتأمل موظف البريد الذى جف ريقه جراء لعق الطوابع .
الحقيقة أن مصر كان فيها قانون ” من أين لك هذا ” هذا القانون وضع لمحاسبة موظفى الحكومة والقطاع العام. وغيرهم لكن بكل أسف تم ” تعطيل ” هذا القانون ، ومن هنا ظهر وما زال يظهر أثرياء بلا سبب ولا وظيفة واضحة من الذى عطل قانون ” من أين لك هذا ” ومن المستفيد من تعطيله ، وأنت مطمئن قل “الفاسدين” هم أكثر المستفيدين من أى تعطيل للقانون ، ولنا فى قضية ” مخالفات البناء ” العبرة والمثل ، القضية أظهرت أن هناك عيوبا جسيمة فى اللوائح والقرارات التى تنظم قواعد وسلطة إصدار تراخيص البناء ، وهى نفسها التى تفتح الباب للفساد ، والقضية أظهرت أن هناك طرفا حاضرا بقوة ولكنه ” مغيب ” بطريقة واضحة ، وحتى على الرغم من تساقط العشرات من المرتشين والفاسدين إلا أن هناك مئات بل آلاف من أباطرة الإدارات الهندسية ورؤساء فى ” الأحياء والمدن والقرى ” ومعهم مئات المقاولون وحيتان البناء المخالف ، ممن كانوا وراء كل هذا الكم من المخالفات والعشوائية والاعتداء على الأراضى ، كانوا وما زالوا موجودين بل هم معروفون بالاسم .
اللافت للنظر أن هؤلاء الفاسدين معروفون للناس ، وتتضخم ثرواتهم بما لا يتناسب مع دخولهم ، ومع هذا لا يوجد قانون يحاسبهم ، ولم يجرؤ أحدا على محاسبتهم .، فهل أصبح شغل الوظيفة العامة هو الباب الملكى للرشوة والفساد ، الدولة بدورها تحاول وتعمل جاهدة لتطبيق ” الشمول المالى ” وميكنة المعانلات المالية .. إلخ حتى تقلل من الفساد لكن الواقع مختلف ، فما أن تضع الدولة نظاما أو قانونا يحد من الفساد إلا وتجد له مخرجا أو ثغرة يلتف حولها المفسدين ، على سبيل المثال تضع الدولة قانونا يمنع إستيراد “التكاتك” فتدخل التكاتك مصر ” مفككة ” وهكذا أصبح الفساد أخطبوطا يلتف حول أى عمل إيجابى .
وحتى يكون هناك مخرجا لهذا المأزق لابد من تغليظ العقوبة على الفاسدين ومصادرة أموال من يضبط متلبسا برشوه أو فساد هو وأسرتة ، ولابد من محاسبة كل من ظهرت عليه علامات الثراء الفاحش بدون مبرر ، هناك العشرات بل المئات من قضايا الفساد قبض على اصحابها فى حالة تلبس وأحيلوا إلى المحاكمة وقضوا عقوبتهم
وخرجوا وهم يخرجوا ألسنتهم للمجتمع والناس ، آثارنا التى تهرب لا أقول تحت مرأى ومسمع كبار المسئولين فى الدولة ولكن أقول بغضهم الطرف “بمقابل” عما يحدث فمن الذى يحاسبهم ؟
الحقيقة أننا سوف نعانى كثيرا إن إستمرت نفس القواعد التى تحكم مكافحة الفساد فى مصر ، لأننى أقول وأكرر ولا أمل من التكرار ” أن من أمن العقوبة أساء الأدب ” ولا ابالغ إن قلت أن الفساد والمخالفات سوف تستمر وتتسع دائرتها ، وتبدو مستعصية على المواجهة إذا تعاملنا معها بنفس الأدوات والطريقة القديمة فى التعامل . وقبل كل هذا وذاك إسأل عن ” الضمير ” إن مات الضمير فقل على الأرض السلام .
حتى تنهض بمصر لابد من إحياء “الضمير” لأنه هو أساس كل شىء ، يحذونى الأمل ومصر تخطو بخطى ثابتة نحو المستقبل أن نواجه الفساد وأن يكون ملف الفساد نصب أعين متخذ القرار وأنا أثق فى هذا ، لأن الفساد قادر على نسف أى جهود تقوم بها الدوله فى سبيل تحقيق أمن وإستقرار المواطن المصرى .