دكتور صبري الغياتي يكتب: من بلاغة الوقف والابتداء في القرآن الكريم

عضو المكتب الفني لوزير الأوقاف

عضو المكتب الفنى لوزير الأوقاف
د. صبري الغياتي
لا شك في أن للوقف والابتداء في القرآن الكريم بلاغة خاصة ، وقد اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا بالحديث عن الوقف والابتداء في القرآن الكريم فألفت فيه المصنفات والكتب التي ملأت الحاضرة والبادية على حد سواء وتلك من عناية العلماء بالقرآن الكريم
والوقوف على بلاغة الوقف والابتداء في القرآن الكريم يحتاج إلى دراسات كثيرة ومتعمقة ، فلا بد من إدراك جوانب التفسير المتنوعة وتتبع مواطن النزول بالإضافة إلى معرفة قواعد النحو واللغة والبلاغة ، وارتباط الكلام بعضه ببعض وتعلق بعض الكلام ببعضه والبحث عن وشائج المودة والصلة بين الكلمات.
ذلك أن اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم هي لغة حية ومن معاني حياتها أن العلاقة بين مفرداتها كالعلاقة بين أفراد البشر.
كما أن العلاقة بين جملها وتركيبها كالعلاقة بين جماعات الناس ، على أن الصفائية في العلاقة بين مفردات اللغة وتراكيبها هي السمة الغالبة على وشائج العلاقات اللغوية في القرآن الكريم خاصة، وربما تجد لوشيجة التعلق بين مفردات النظم القرآني وجملة ما لا تجده في هذه الوشيجة بين جماعات البشر وأفرادهم ، ولنأخذ على ذلك مثالًا من القرآن الكريم في تعانق الوقف أو الوقف المتعانق كما سماه كثير من العلماء
والوقف المتعانق في القرآن الكريم هو أن تكون هناك كلمة لها نوع تعلق بما قبلها كما أن لها نوع تعلق بما بعدها ، فيجوز أن نقف عليها متصلة بما قبلها كما يجوز أن نقف على ما قبلها وأن نصلها بما بعدها من الكلام ، وهي في كلتا الحالتين تعطي معنى جديدًا غير ما أعطته في الحالة الأولى ومن ذلك قول الله تعالى:”ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ” وهنا يمكن أن نقرأ” ذَلِكَ الْكِتَابُ” ونقف ثم نقرأ” لَا رَيْبَ فِيهِ” ثم نقرأ ” هُدًى لِلْمُتَّقِينَ” ويجوز “ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ” ونقف، كما يجوز أن نصل “فيه” بما بعدها فنقرأ ” فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ” ولكل وقف وابتداء من هذه الوقوف معنى ودلالة وبلاغة، فحينما نقرأ (ذَلِكَ الْكِتَابُ)ونقف، فإن فيه إشارة إلى أن هذا الكتاب وهو القرآن الكريم هو وحده دون غيره هو من يستحق اسم الكتاب وذلك بقضية تعريف الطرفين التي هي من أساليب القصر فدل ذلك على أن القرآن وحده هو المستحق أن يسمى كتابًا على الحقيقة وذلك بما هو تنزيل من حكيم حميد.
ويمكن أن نقرأ ” ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ” ونقف وإذا كانت زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى كما يقرر أهل اللغة، فإن قوله: “لَارَيْبَ فِيهِ” نفت عن الكتاب المستحق لهذا الوصف دون غيره أن يتطرق إليه شك ، أو نهت أن يتطرق إلى عقولنا أدنى ريبة فيه كما قال : “فلا يكن في صدرك حرج منه” ويكون قوله ” ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ” رد على كل من تسول له نفسه أن يشكك في هذا القرآن، في إعجازه أو بلاغته أو أن نسبته، لا ريب قطعت على كل نفس ريبتها وردتها إلى الحقيقة المطلقة، فإن هذا القرآن هو كتاب الله ما من شك في ذلك ، فلتذهب شبهات المشككين كيفما كانت أدراج الرياح ويبقى القرآن الكريم هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ويمكن كذلك أن نصل الكلام بما بعده فنقرأ” ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيه” وإذا كان الوقف السابق قد نفى عن الكتب مطلق الريب فإن كلمة فيه قد نفت أن يتطرق الريب إلى أي جزئية فيه فيكون الكتاب بعيد عن كل ريب جملة وتفصيلا ، فلما أجهدت عقلك لتجد في القرآن الكريم موطنا تعيبه فلن تجد، ومهما تقدم العقل البشري ومهما تغيرت الحياة فإن القرآن سيظل جديدًا يقدم لكل عصر متطلباته، يواكبه تطوره ولن تجد ثمة ريبة أو شك في أي من سوره وآياته “وانه لكتاب عزيز” ويمكن كذلك أن نبدأ القراءة “فيه هدى للمتقين ” كما يمكن أن نبدأ بقوله “هدى للمتقين” وعلى البدء بقوله ” فيه هدى ” يفيد القصر بطريق بطريق التقديم كأنه قال الهدى في هذا الكتاب لا في غيره.؟
فمن أراد الهدى الحقيقي فعليه بالقرآن ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم):”ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله”، وعلى إتمام الكلام ” فيه هدى” يكون قد خص هداية القرآن بالمتقين والتقوى هنا معناها التجرد وكأن القرآن يقرر ابتداء أن العقول مهما اختلفت مشاربها ستجد الهداية في هذا الكتاب بشرط أن تتجرد من النوازع والأهواء ، وعبر بالمصدر “هدى” ليدل على أن القرآن هو مصدر الهداية لجميع الحائرين ، ومن وقفت بهم دروب الحياة وأغلقت أبوابها أمامهم.
ويمكن أن نقرأ ” ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيه ” ونقف ثم نقرأ ” هدى للمتقين” فتكون الجملة تذييلا لما قبلها، وإنما عبر بالهدى دون الهداية، لأن الهدى فيه معنى الجمع فيكون المعنى أن مصدر الهدى جميعه في هذا الكتاب
والله تعالى أعلى وأعلم
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.