شاءت الظروف وأنا طالب في كلية كمبرلي الملكية في إنجلترا أن أقرأ كتاب هنري كيسنجر أشهر وزراء الخارجية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والذي أصدر 18 كتاباً وكان أشهرهم ذلك الكتاب “كيف يتم صياغة السياسة الأمريكية” وبعد قراءة هذا الكتاب كان ملخصه أن الولايات المتحدة الأمريكية تضع سياستها الخارجية باسم ما يعرف (Levels of Interest) أو اسبقيات الاهتمام بالنسبة للأمن القومي الأمريكي لذلك تذكرت ذلك وأنا أتابع ما يحدث في الشرق الأوسط الآن وبالذات بعد حرب غزة الرابعة..
في البداية نقول أنه يعد تولي جو بايدن مقاليد الأمور في البيت الأبيض يوم 20 يناير الماضي بدأ الجميع يتساءل عن السياسة الجديدة للولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط وبعد شهرين بدأت تظهر ملامح هذه السياسة الأمريكية تجاه المنطقة.. فلقد أجمع فكر المحللين والمفكرين أن اسبقيات اهتمامات الولايات المتحدة في الفترة القادمة ستكون أولاً للموقف الإيراني ومنع ايران من تملك السلاح النووي، والثاني كان المحافظة علي تدفق النفط من منطقة الخليج إلي أوروبا واليابان، وجاءت الأسبقية الثالثة بما يحدث في منطقة القرن الأفريقي وخاصة في اليمن وتهديد الحوثيين لأمن المملكة العربية السعودية وظهر ذلك واضحاً من اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بضرورة سرعة حل المشكلة اليمنية حيث وجدت الولايات المتحدة نفسها مسؤولة عن الأمن القومي للمملكة العربية السعودية لدرجة أنه تم تعيين مندوب دائم للولايات المتحدة هناك لمتابعة الأحداث في القرن الأفريقي.. تلك كانت الاسبقيات الأولي المباشرة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
وجاءت الاسبقيات الثانية في التعامل مع القضية الفلسطينية، ثم النزاع في منطقة شرق المتوسط للصراع علي الغاز الطبيعي ثم متابعة الأوضاع في ليبيا، وأخيراً يأتي متابعة الأوضاع في لبنان وسوريا والعراق ومعهم متابعة الموقف في تركيا، خصوصاً قيام تركيا بشراء منظومة الدفاع الجوي الروسي S400 واصرارها علي استمرار تنفيذ الصفقة، وما حققه ذلك من مشاكل داخل حلف الناتو، وفجأة اشتعل الموقف في القدس عندما نظمت جهات يمينية إسرائيلية متطرفة مسيرة في شوارع القدس الشرقية احتفالاً بذكري احتلالها عام 67 والتي يطلق عليها الإسرائيليون “عيد توحيد القدس” وهو ما اعتبره الفلسطينيين استفزازاً وزاد الموقف اشتعالاً بمحاولة بعض المستوطنين اليهود الاستيلاء علي منازل العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية لطردهم وإزالة بيوتهم لإقامة حي إسرائيلي جديد.
وتصاعدت الاضطرابات لتشمل غزة حيث أطلقت المقاومة الفلسطينية صواريخها تجاه المدن الإسرائيلية والمستوطنات وبعد احدي عشر يوماً توقف القتال في غزة بين إسرائيل من جهة وحماس والفصائل الفلسطينية من جهة أخري.. وبعد وساطة مصرية وجهود أمريكية توقف القتال بعد استشهاد 248 فلسطينياً وإصابة أكثر من 2000، وعلى الجانب الإسرائيلي مقتل 12 شخصاُ وإصابة 335 بعد أن أطلقت المقاومة الفلسطينية 4070 صاروخاً من غزة تجاه إسرائيل.
وبعد توقف القتال تحدث الرئيس جو بايدن لأول مرة حول القضية الفلسطينية حيث أكد في البداية أن الولايات المتحدة تؤكد علي حق إسرائيل في الوجود وأن أمريكا تتعهد بضمان وأمن إسرائيل وأكد أنه “لا سلام في المنطقة دون اعتراف دول المنطقة بإسرائيل” وجاءت مقولة الرئيس الأمريكي أنه يؤيد حل القضية الفلسطينية من خلال إقامة دولتين، الأولي في الضفة الغربية والقطاع والثانية في إسرائيل، وبالطبع ذلك يتمشى مع فكر ومطالب الدول العربية.
ومن هنا عاد الأمل من جديد هل يمكن للرئيس الأمريكي جو بايدن أن يتبني في الفترة القادمة قيام الولايات المتحدة ببذل الجهود لكي تصبح المشكلة الفلسطينية من اسبقيات واهتمامات الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة أنها قضت علي فكرة الرئيس الأسبق ترامب في حل المشكلة من منطلق صفقة القرن التي رفضتها كل الدول العربية وأصبح الطريق الآن مفتوحاً أمام الرئيس الأمريكي لكي تقود الولايات المتحدة عملية إقرار السلام في الشرق الأوسط بحل القضية الفلسطينية خاصة وأن بعض الدول العربية قد بدأت في عملية التقارب مع إسرائيل وفتح السفارات وتسيير الرحلات الجوية وتبادل المصالح الاقتصادية.
كذلك جاءت الأهمية في ظهور مصر وقيادتها في تولي دور رئيسي في المنطقة ممكن أن يستغله الرئيس الأمريكي في تحقيق السلام وحل القضية الفلسطينية من خلال حل الدولتين ولا شك أن المشاكل التي يمكن أن تقابل حل الدولتين مثل تحديد العاصمة، وحدود الدولة الفلسطينية، ومشكلة تسليح الجيش والشرطة في دولة فلسطين، ثم مشكلة عودة اللاجئين، ومشكلة المياه، كلها أمور تم التباحث بشأنها من قبل ويمكن أن يتم مناقشتها علي طاولة المفاوضات عند تولي مصر زمام حل هذه المبادرة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية مثلما نجحت مصر في إيقاف اطلاق النار دون قيد أو شرط بين حماس والمقاومة مع الجانب الإسرائيلي.. لذلك أصبح الأمل الآن أن يقوم الرئيس جو بايدن ومجموعة مستشاريه بالتفكير خلال الفترة القادمة ببذل جهد في حل القضية الفلسطينية خاصة أن موقف نتنياهو في إسرائيل أصبح ضعيفاً بعد أن خسر إمكانية تشكيل الوزارة بعد 4 انتخابات خلال عامين لذلك فإن الجميع يتطلع هذه الأيام بعد زيارة وزير الخارجية الأمريكي الي المنطقة ومقابلة القادة في إسرائيل ورام الله، ثم مصر، والأردن،
كل هذه الأمور سوف تتضح له في إمكانية اقناع الرئيس الأمريكي بمحاولة الحل خصوصاً أن هناك مؤتمر “إعادة إعمار غزة” الذي من المنتظر أن تتولي مصر رعايته تحت إشراف الأمم المتحدة خصوصاً أن مصر تفكر حالياً في عقد مؤتمر للسلام بجمع القوي الفلسطينية والإسرائيلية لبحث إحلال السلام ويمكن أن يتم تحت رعاية الأمم المتحدة وبالطبع بمباركة الإدارة الأمريكية الجديدة.. لذلك اعتقد أن هناك فرصة ذهبية لدي الإدارة الأمريكية الجديدة أن تنطلق لتبذل جهودها للوصول الي تسوية شاملة لحل المشكلة الفلسطينية وقتها سيدخل جو بايدن التاريخ من أوسع أبوابه وهو يحقق السلام في الشرق الأوسط وهو أمل ينتظره الجميع.