أ. د. سامية خضر صالح تكتب: الدراما الرمضانية بلا معنى

جامعة عين شمس

د. سامية خضر
هل جربت أن تكون فى الغربة بعيداً عن بلدك وفجأة تلمح إعلان ضخم يتوسط “إسم مصر” تحيط به أضواء تتحرك على الشاشة وبها منظر للأهرامات وهى تتغير لترحب بك بكتابات ملونة وتصل إلى التأكيد بأن مصر بلد الفن والثقافة ؟
وهل جربت أن تتحسس بيدك كالطفل الصغير الزجاج الضخم لعدد من المكتبات على نفس الرصيف الواسع جدا حيث الجماهير تذهب وتجئ فى انتظام لا يشوبه طرفة عين وأنت قد تسمرت تريد أن تعلن على الملأ أن تلك الكتب التى تزين الحائط بشكل جمالى داخل تلك المكتبات هى عن أجدادك الفراعنة ؟؟ ..
هذا ما حدث لى فى باريس عاصمة النور والثقافة والجمال وأخترت كتابا بعنوان: “L’Egypt d’aujour d’hui” “مصر اليوم” وهو مكون من 13 فصلا قام بتحريره 12 عالم اجتماع فرنسى كل منهم قدم دراسة مستقلة عن ذلك الوطن العظيم أما الفصل الأخير فى ذلك الكتاب فقد قدمته السيدة (سيرز ويصا واصف) أبنة السياسى والمعمارى والنائب الوفدى المخضرم والذى صنع قرية الحرانية واستمرت ابنته فى تبنيها لمركز (رمسيس ويصا واصف) بعد وفاته، وهو للأسف مهدد بالاندثار حالياً.
وقد جذبنى أحد الفصول التى توضح كيف دخلت صناعة السينما فى مصر بعد عشر أيام فقط من وجودها فى باريس والتى أصبحت تلك الصناعة منارة للثقافة والتنوير ليس فقط للدولة المصرية ولكن لكل العالم العربى حيث بدأت فى الاسكندرية ثم داخل القصور الملكية بالقاهرة إلى أن أفتتح الإيطالى “سانتى” أول صالة للجمهور فى عام 1900م وبعدها بدأت تتوالى افتتاحات أعداد من الصالات والتى عكست الإقبال عليها هذا العشق الفنى والأدبى للأفلام المصرية ذات القيمة الفكرية والملهمة بجماهير الشعب على كل المستويات، ومع مرور الزمن لم تعد فقط وسيلة للترويح بل لخلق تيارات وموجات من المشاركات الوجدانية وأداة لتربية المشاعر والتسامى ونتيجة ذلك الإدراك المذهل اهتمت السينما المصرية بتعظيم الشعور القومى، وأيضاً المناسبات الدينية.. حتى أصبحت مثل الفاكهة التى تظهر فى مواسمها فيتغذى بها ويرتوى ويرتقى ويسعد الأدباء لتحويل قصصهم إلى منظومة متحركة وأدوار ملهمة لكل الأعمار . من توفيق الحكيم إلى طه حسين إلى يحيى حقى – إلى أديب نوبل نجيب محفوظ وغيرهم .
وإذا كنا جميعاً مؤمنون بأن الثروة الحقيقية لهذا البلد هى “الإنسان المصرى” وأن ضياع الشخصية المصرية ستؤثر على بناء هذا البلد خاصة وسط هذه الصراعات العالمية والأزمات السياسى، فإن المعرفة بالشخصية المصرية يعمق تحفزنا أن تستعيدها قبل أن تغيب ونفقد الطريق إلى المستقبل وإذا كان البعض يرى أن الدراما الرمضانية هذا العام 2021 هى أعمال مسلوقة بلا معنى ولا ترقى إلى رأفت الهجان، ولا حرب الجواسيس ولا حارة اليهود، ولا أم كلثوم، ولا ضمير أبلة حكمت، فإن علينا أن ندقق النظر، وإذا كان البعض قد إستاء من جملة تتكرر فى “الاختيار 2” (مشكلتنا إننا بنحب عملنـا أكثر منا) فإنه وبالتأكيد حب العمل ليس مشكلة .. بل إنه لا يمكن أن يكون الإنسان قادراً على العطاء الحق إذا لم يكن عمله تعبيرا عن رؤيته وإيمانه وفكره وعقيدته.
وإن ما نحتاجه اليوم هو بعث القيم حتى لا تنزلق إلى مزالق العنف والجريمة التى نشاهدها كل يوم عندما يظهر ” أحمد السقا ” فى صورة قميئة وهو يصرخ: “أنا هعرفك إزاى أبوك قتل أبوه” وفى موسيقى مزعجة وإن هذا العبث للقيم غير المرغوبة والمقززة تحتاج لأهمية المراجعة، أما مشاهد الاغتصاب وتخريب النفوس وكتابة أن تلك المشاهد هى ليست لمن هم أقل من 12 سنة فهو يمثل انفصاما مجتمعيا غير مقبول لدولة بها 60% من الشباب وبها نسبة أمية عالية وإننا فى حاجة للتمسك بقيمنا قبل أن تذوب داخل العولمة وقد يضيع السلام الداخلى وهو العنصر المهم والسحرى دوما للإنسان المصرى، الذى لا تلقاه فى أكثر الدول رفاهية حيث تزداد نسبة الانتحار فى بلد عرفت بتلك الصفة مثل السويد مثلاً ولا المناداة بالحرية ولو على أشلاء أقدم القيم.
وهناك من يعتقد أننا فى العالم الثالث يجب أن نسير على الدرب نفسه الذى سارت عليه الدول الغربية، ولكن ذلك لا ينطبق أبداً على الدول التى لديها تاريخ قديم وثقافة علمت العالم فنونا راقية، وقد يرى الجمهور المصرى الذى تعود على الإلهام والفكر المتعمق .. أنه من حق المواطن أن يعود للاستمتاع بحفلات الفن الجميل الذى يشاهده زوار الأوبرا كذلك حفلات ضيوف مصر مثال: ماجده الروم، والذين يقيمون حفلاتهم فى القصور الملكية، فإن أكثرنا قد تابع حفلات أم كلثوم وعشقنا كلمات أغانيها وارتبط أهالينا بشعراء صاغوا كلمات ليست كمثل الكلمات وكل ذلك من خلال التليفزيون المصرى وكذلك حفلات عبد الحليم وفريد الأطرش ونجاة وغيرهم فكانت الإذاعة مع شاشة ماسبيرو، يعملان على نشر النغمة المنتقاه وغسل الروح من أى تلوث، وليس من العدالة أبداً أن تصبح هذه الأمسيات وقفا فقط على من يحضرون إلى المسارح. فالفن الراقى هو الأكسير الذى ينقى حياة الشعوب وهو لا يقل أهمية عن الجوانب التعليمية والاقتصادية والصحية، فالإنسان كل متكامل وإذا كان غذاء البطون أمر مهم، فإن غذاء الروح لا يقل أهمية، وإن تعظيم العواطف النبيلة أسهل وسيلة للقضاء على الجرائم والأفكار السيئة التى انتابت العديد من الأعمال التليفزيونية، ولتكن حفلات وزارة الثقافة بكل مميزاتها منبرا لإعادة السكينة إلى القلوب، ومنبـرا لإشاعة الأمل فى العيون، وهى ليست حكرا على بعض المحظوظين، فإن “أم كلثوم” كانت تعرف تحت مسمى كوكب الشرق .. وكانت “فاتن حمامة” تعرف بسيدة الشاشة العربية، وإن مائة مليون مصرى ممكن بسهولة أن يخرج منهم أكثر من أم كثوم وفاتن والأبنودى وغيرهم.
  • افتحوا الأبواب حتى يعود لمصر دورها العظيم، هل من مجيب؟.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.