والدة الشهيد مازن سالم : ” إبنى قالى الشهادة من أجل مصر طريقى لربى”

كتب : محمد نبيل محمد
كنت احفظ منذ صغرى حاجاتى فى درج وحيد يعلمه كل من بالبيت ولا يستطيعون الاقتراب منه, يتهامسون ضحكا مرة, واخرى عتابا, ومرات كثيرة يتحدون بعضهم البعض من يملك الجرأة للنبش فى اسرارى ونفائسى, لم اكن البنت المدللة فى الاسرة لكننى كنت ادعى لهم جميعا اننى صاحبة املاك, واملاكى هى اسرارى, واسرارى هى اجمل ما لدى, بل هى “انا”, وكانوا يضحكون عندما يروننى اطالع اسرارى بتروى واهدهد على صورى وسط ابواى, واداعب خصلات شعر عروستى, واخفى ما اكتبه او ارسمه ببراءة الاطفال وببساطة اقلامى الخشبية الملونة, كنت ارسم سماء يطير اليها ملاك, وظلت تلك الرسمات تصاحبنى واصاحبها واحفظها فى درج الاسرار الذى لازمنى طفلة وشابة وعروس واما بعد ان انتقل معى من بيت ابى الى بيت زوجى, حتى جائنى يوم دون استأذان, يقتحم على حياتى شاهرا بلطته الحادة ليقطع مسارات حياتى وكأنه يقول لى كفاك اسرار والى هذا القدر من الزمن تتوقف احلامك لملاكك السابح الى السماء , واجدنى اتمالك نفسى وانا غرقى فى دم تقطر من بلطته الغير رحيمة , هو دم يشبهنى او هو جزء منى , عندما تأكدت من ان هذا الدم يجرى من اوصالى الى درج الاسرار , يتحسس طريقا الى هذا الدرج الذى بات يحفظنى انا وليس اسرارى وفقط , اسحب مقبضه بيدى , وفى يسر بالغ كأننى احمل رضيعا او ملاكا, او كلاهما, كان السر الاعظم فى هذا الدرج هو رسم احتفظت به وانا مازلات اجدل اوليات ضفائرى القصيرة , وانا اراه ملاكا يطير الى السماء, ياااا الله !, كل هذا السنوات الخمسين وانا لم الحظ ولو لمرة واحدة ملامح ملاكى الذى ارسمه , يبدو وان التجربة الاولى فى الابداع والرسم من المحتم ان تكون تجرببتى الذاتية , اننى كنت انقش بقلمى الأحمر الخشبى ملامح اتملاها من اعماقى , وهى تتشكل داخلى كل يوم انظر الى رسمى فيما بعد, الان وبعد ان انكشف السر كاملا وانسحب الدرج الى خارج الحياة
وكما اعتدت اتحسس بإبهامى ملامح ملاكى الذى ظللت ارسمه طيلة عمرى انه هو!, هو من اخبرتنى ملامسة اصبعى على وجهه الجميل الذى اعرفه تماما, نعم هو, ذو وجه جميل, فقد رسمته – سابقا – كما اريد, اردته ملاكا, واخيرا استجمع ما تبقى لدى من بعض قوة وتنفرج اهداب اجفانى ليرقد فيها رضيعى هو ملاكى السابح فى سماء الله , مخضبا بالون الوردى , هاشا باشا , مهللا باتسامة ترحاب هادئة, كأنه يخبرنى بتحقيق نبوئتى,
ويسألنى بلطف رقيق : الم ترسمى انت بيدك ملاكك السابح فى السماء؟ لماذا تتفاجئى الآن من صدق ذكرياتك! وهذه المرة تربت اسرارى على كتفى, واجدنى اكتشف اننى كنت اخبىء سر اسرار وجودى فى درج الحياة الذى ما ان ينفتح الا ويطير رضيعى الملاك الى سماء ربى وربه تاركا ورائه بعضا من ذكريات حطبية لانسان فارقه ملاكه,  وفى الانحاء تزاحموا , وتقاربوا, كانوا ينادون على اسم كان يعنى لى الحياة, وعندما ادعوا ان هذا الاسم صار جثمان ممدد, عندئذ اعلنوا وفاتى!.
والدة الشهيد مازن ابراهيم سالم تحكى سيرة وليدها:” إبنى الشهيد النقيب مازن إبراهيم سالم ولد فى الخامس من ديسمبر 1998, هو إبنى الوحيد مع إبنه تصغره بثلاث سنوات, إلتحق بمدرسة طلعت حرب التجريبية للغات فى مساكن الضباط فى منطقة أبو قير بالأسكندرية, وكنت أنا ووالده نعمل فى شركة مصر للغزل والنسيج بكفر الدوار,
كنا نخرج صباحا تجاه عملنا, ونركب سيارة الشركة, ونتركه ليركب بعدنا سيارة المدرسة, وكان مازن هادىء الطباع, طيب لا يرفع صوته, يقضى معظم وقته فى قراءة القرآن, ويصلى فى المسجد, حتى انه كان يظل قلقا طول الليل خوفا من ضياع صلاة الفجر, وكنت أخاف عليه من النزول فى سكون الفجر وهو فى سن ٦ و ٧ سنوات وفى البرد القارس وكان يصلى فى مسجد يبعد قليلا عن الذى يصلى به والده, والتحقت أخته معه بنفس المدرسة, وكان لها  أخا وأبا وسندا, كان يتحمل مسؤليتها, يذهبا معا المدرسة,
كنت أراه وأنا ووالده نركب سيارة الشركة وهو يحمل شنطته وشنطة أخته ويرفع أخته لتركب سيارة المدرسة منذ كان فى الصف الأول حتى آخر وقت تحمل المسئولية دون أن يطلبها أحد منه, يطمأٔن عليها فى فصلها, يطمأن على أكلها, ويعودان للمنزل, يفتح الباب ويدخلا كان مثال للإبن المحترم المهذب لم يتأخر يوما بعد مواعيد المدرسة, ولم يكن من الأولاد التى تسبب مشاكل لأهلها مع زميل أو جار,
وفى هذه المدرسة بعد إنتهاء مرحلة الإعدادية يتم الفصل بين البنات والبنين, فقد إنتقل الشهيد رحمة الله عليه لمدرسة الثغر التجريبية للغات بمنطقة لوران والمسافة بعيدة لحد ما بالنسبه لمازن الطيب الجميل الذى لم يعتاد الخروج بعيدا إلا بصحبتنا, وقد أصر أن يركب القطار وكنت أخاف عليه جدا لأنه لم يعتاد على ذلك ولكن نظرا لالتزامه فقد قضى فترة ال٣ سنوات دون أى مشاكل ولم يتأخر عن موعده يوما فقد كان مثال للإلتزام, وحصل على الثانوية العامة بنسبة ٨٩٪ وقبل ظهور النتيجة طلب أن يحصل على دورة لياقة بدنية, وإلتحق بنادى ضباط أبو قير, ثم فى كلية التربية الرياضية فى أبو قير, ثم فى مجمع مبارك المجمع الأوليمبى فى منطقة سموحة, لاصراره لتحقيق حلمه
كان يصلى الفجر ويذهب ليتريض ويجرى من المعمورة حتى فندق المحروسة أوسان إستيفانو, كان أمامه هدف أن يلتحق بالكلية الحربية أو الشرطة, وبدأت إختبارات القبول بكلية الشرطة حلمه الاول, وكان يسافر يوميا الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ليكون أمام الكلية الساعة الخامسة صباحا ويعود الخامسة عصرا ليعاود المشوار, وقبل فى كلية الشرطة فى ٢٠٠٧ وفرح جدا عندما أبلغه أحد زملاؤه أنه نجح وكان متحمس جدا جدا, قضى سنواته الأربع, وقبل التخرج حدثنا أنه مطلوب منه كتابة الرغبات فلما سألته, قال لى:” أنه حيكتب الرغبة الاولى  سينا, وبعدين الصعيد وبعدين مطروح”, ففزعت لأنه إتخرج فى ١٦/٥/٢٠١١ فى أعقاب الثورة, فقلت له:” يا إبنى إنت لسه ما عندكش خبرة بلاش الغربة دلوقتى خليك فى إسكندرية أو البحيرة”, زعل ولما إتكلمت معاه وقلت له :”إنى خايفة عليك”, قال لى :”هو انا دخلت الشرطة علشان أقعد جنبك ده إحنا أول يوم دخلنا العنبر قالولنا إقرأوا الفاتحة لزميلك اللى كان نايم مكانك أنا دخلت الكليه دى علشان إحمى بلدى وشرفى وعرضى يعنى أنا ديتى رصاصة بربع جنيه إطمنى وريحى نفسك يا امى “,
فضلت ألح عليه, وقد كان وكتب الرغبات إسكندرية وبعدين البحيرة وفعلا إتخرج وتم تعينه فى مركز شرطة إدكو, قلت الحمد لله, وكان كعادته قمة الإنضباط لدرجة انه نال سريعا تقدير روؤسائه وكان مأمور المركز يصطحبه وهو يمر على المركز, خدم سنه ونص فى إدكو ثم تم ندبه لتأمين المصايف لمدة شهرين وبعدها سنه فى وحدة تأمين الطرق على الصحراوى ( النوبارية) سنتين ونصف لكن كان بيشتغل بضمير وإخلاص وكأنه بقاله سنين فى الخدمه
وطوال هذه الفترة كان دائم الرغبة فى الإنتقال لسيناء وكنت أطلب منه أن ينتقل لكفر الدوار علشان يكون معانا ولكنه قدم طلبات عديدة فى الوزارة خلال فترة أحداث محمد محمود ومحاصرة وزارة الداخلية للإنتقال لسيناء كان عايز ينتقم لزملاته والمشاركة فى غلق هذا المنفذ الذى يدخل منه الإرهابين المجرمين,
وقبل حركة النقل الأخيرة فى شهر يونيو ٢٠١٣ إتصل بوالد الشهيد عقيد وسأل على مازن وقال إن تليفونه مغلق وطلب من والده أن مازن يتصل بيه علشان طلب النقل اللى قدمه اتقبل ,
وعرفنا بعد إستشهاده أنه قاله أكمل مدتى فى البحيرة وبعدين أروح سينا يا الله لم يرد أن يغضبنى وطلب إنه يكون فى كفر الدوار الله يرحمك يا إبنى, والمسافة بين كفر الدوار وبين أبو قير مكان إقامتنا حوالى ساعة مواصلات ولكنه بسبب الطوارىء وظروف البلاد فى هذه الفترة كان مقيم فى إستراحة فى كفر الدوار ولم نكن نراه وقليلا ماكنا نستطيع التواصل معه,
وكانت الساعة الواحده بعد منتصف الليل ٣/٢/٣٠١٤ جاءنى تليفون يسألنى منزل الملازم أول مازن إبراهيم سالم, فقلت له:” إنت مين؟” قال لى:” مازن إستشهد”, يا إبنى :”إنت مين إنت فين؟” ورد :” فى مستشفى الشامله فى كفر الدوار”, وكنت أنا وأخته وحدنا فى المنزل فكان والده عند جدة مازن حيث كان جده فى عمره إتصلت به
وقلت له :”إلحقنى يا إبراهيم مازن راح يا إبراهيم” قال :”لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله والحمد لله”, قفلت التليفون, ورجعت أطلب مركز كفر الدوار, قلت لهم:” فيه إيه عندكم  ابنى اخباره ايه؟” قال لى :”البطل مازن مصاب” حطيت السماعة وسكاكين تمزق قلبى إبنى فلذة كبدى شاب زى الورد ٢٤ سنه عامله له شقته وأقوله تعالى يا مازن شوف إختار نقى علشان تبقى زوقك لأ أنا مش حتجوز دلوقتى أنا حسكن فى مكان احسن!,
نزلنا فى دقيقة أنا وأخته ووالده جه أخدنا وذهبنا لكفر الدوار بمجرد وصولنا للمستشفى وجدنا جميع القيادات الأمنية فى كفر الدوار والبحيرة فى المستشفى قابلونا طلبت منهم أن أرى إبنى قالوا لى حاضر قلت لهم عايزه أشوف إبنى ( عايزه أعرف إيه اللى حصل إبنى كان زى الورد طول بعرض مؤدب هادى لا يتطاول على أحد ولا يؤذى أحد ماذا حدث) دخلوا معنا وقام أحد العاملين بفتح درچ أيوه درج إبنى  الذى أتم ٢٤ سنه منذ شهر ولم يمر على تخرجه ٣ سنوات يرقد داخل هذا الدرج مبتسما بكامل ملابسه المدنيه ولكن البلوڤر ذو اللون الببچ الفاتح  أصبح مصبوغا بدم الشهيد والله قلوبنا تعتصر ولكننا حمدنا الله وإستودعناه عند الذى لا تضيع عنده الودائع, وخرجنا لحين إنهاء الإجراءات,
واقترب منى أحد أفراد الأمن وقالى إنه كان فى راحته وكان مروح وكان فيه مأمورية تنفيذ أحكام أصر إنه يطلع مع زميله وذهبا وأنهوا المأمورية, وأثناء عودتهم رأى ثلاث سيارات وحوالى ١١ مجرم ومعهم أسلحه آليه أوقف السياره ونزل وحده لإستطلاع الأمر فإذا بالمجرمين يطلقون وابلا من الرصاص على إبنى فيسقط على الأرض وينتهى شريط حياة إبنى الوحيد,
الله يرحمك يا مازن ولدت ملاكا وليس طفلا وعشت رجلا ومت بطلا لا تهاب الموت ولا تهاب رصاص أعداءك أعداء الوطن رحل مازن منذ ست سنوات ونصف ولا أزال أسمع سيرته الطيبة وسمعته اللى مسمعه فى إسكندرية والبحيرة والله مسمعه فى القاهرة الله يرحمك يا إبنى ويجعل سيرتك الطيبة فى ميزان حسناتك”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.