يقول الله تعالى فى سورة البقرة: “وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
قد تختلف الشرائعُ السماوية في بعض التفاصيل، لكن من المؤكّد أن العقيدةَ لا خلاف فيها في جميع الرسالات والشرائع، فالكل من مشكاةٍ واحدة، والأنبياءُ إخوة لعلّات الأبُ واحدٌ والأمهاتُ مختلفة – كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم – إشارةً إلى اتفاق العقيدة والمآل وإن اختلفت الشرائع والأحوال.
حرمة الدم
ومما اتُّفِق عليه بين جميع الشرائع هو حرمةُ الدّم أيَّا ما كان، إلا بحقه الذي أوضحته الشرائع وهو دائما ما يكون في أضيق الحدود، كالقصاص مثلا.
ذلك أن الإنسان هو بنيان الله تعالى وملعونٌ من هدم بنياَن الله، بعيدا عن تقدير الإنسان أنه من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، فالأولى أن يقدّر هذا فلا يعص اللهَ في حالٍ من الأحوال، تقديرا واحتراما لنعم الله عليه أن خلقه بيده.
فأخذ الله تعالى الميثاق على بني إسرائيل ألا يسفكوا دماءَ بعضِهم، وعبَّر بقوله: “دماءكم” إشارة إلى المجتمع الذى ينبغي أن يكون قوة واحدة بعيدا عن التفرق والتشرذم، فمن قتل غيرَه فكأنما قتل نفسه، لأن آثار القتل والتخريب لا تطالُ أحدًا بعينه بل تسري في المجتمع كلّه ويتجرع الجميعُ ويلاتِها حتى المذنبَ ذاته.
ولكن عجبا لبني إسرائيل الذين لم يحترموا عهدا ولا ميثاقا حتى مع الله تعالى، فأخلفوا وبدلوا وقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضُهم بعضا من داره، متعاونين على الإثم والعدوان، فسلّط الله بعضهم على بعض، فأعملوا القتل والأسر.
لمحة خاطفة
ثم يلفتنا القرآنُ في لمحة خاطفة إلى هذه الحالة التي يعيشها بنوا إسرائيل من التناقض والتذبذب النفسي غير المبرر، فيحكي أنهم مضطربين نفسيا، إذا كيف يستبيحون القتل والإخراج كرها من الديار، ومع ذلك إذا أسر أحدهم تعاونوا على فك أسره؟
إنها والله حالة من المرض النفسي، والقلق الوجداني تجعلهم غير منضبطين سلوكيا واجتماعيا، فيفضحهم القرآن بقوله: “وهو محرم عليكم إخراجهم” إي كيف تفعلون ذلك فتستحلون الإخراج وتتعاونون على فك الأسير؟
سياسة الانتقاء
ثم يوبخهم بقوله: “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض” وهذا حال من اتبع سياسة الانتقاء في الاعتقاد فيعتقد بما يحقق له مصلحة، ويرفض ما تعارض مع هواه أو مصلحته، وهي الانتكاسة الحقيقية، لكن عذاب الله لهؤلاء وأمثالهم بالمرصاد، فيخزيهم الله في الدنيا ويدّخر لهم عذابا شديدا يوم القيامة، فسبحانه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.
ملوِّحا بخسرانهم في الدنيا والآخرة لأنهم باعوا آخرتَهم بثمن بخس هو عرضٌ زائل لا محالة، فلا يخفف عنهم العذاب ولا يجدون لهم من دون الله وليّا ولا نصيرا.