عبد الناصر البنا يكتب : رمضان .. قصص وبقايا حكايات فى الذاكرة (4ــ4)

عبد الناصر البنا – الفضائية المصرية
شهر رمضان فى رحاب الحرم المكى والروضة الشريفة فى المسجد النبوى له طعم ومذاق مختلف وروحانيات يصعب أن يصفها  القلم فى كلمات ، والحقيقة أنى حرصت طوال السنوات العشر التى قضيتها فى المملكة العربية السعودية على قضاء العشر الأواخر من شهر رمضان فى الحرم ، وهى فترة طويلة نسبيا وبالتأكيد كانت مليئة بالمواقف والحكايات التى ظلت محفورة فى الذاكرة
وهنا أتذكر أنى كنت أحرص خلال تلك الزيارت على إختيار الصحبة ، كما يقال” الرفيق قبل الطريق ” كنت أشد ما أحرص عليه هو أن أصطحب معى أبناء بلدتنا من عمال الصعيد البسطاء لأسباب قد تأتى فيما بعد .
جبريل وسليمان ثنائى من أبناء محافظة قنا رافقانى فى أكثر من زيارة من مدينة (حائل ) الواقعة فى الجزء الشمالى الغربى من المملكة والتى تشتهر بجبال أجا وسلمى إلى ( مكة المكرمة ) مسافة 960 كم كنا نقطعها فى 8 ساعات تقريبا  ،  ويتخللها إستراحة فى ” أبيار أولاد على ” للإستجمام والإحرام وزيارة قبر الرسول وأصحابه الكرام ” أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ” والصلاة فى الروضة الشريفة .
 جبريل كان ــ أميا ــ لايقرأ ولايكتب ، ورغم أنه لم ينل أى قسط من التعليم ، إلا أنه كان متقد الذهن حاضر القريحة يمتلك من الفراسة والذكاء مالم يملكه كثير من المتعلمين ، وكان إبن نكتة يخفف علينا أحلك المواقف
لا أنسى له موقف مع أحد رجال المرور فى مكة المكرمة طلب منا الوقوف قائلا : لبك ياراعى النيسان ومعناها (قف) فقال له جبريل : لبيك اللهم لبيك ، وكررها الشرطى وجبريل يكررها ، أقسم بالله أننى لم أتمالك نفسى من فرط الضحك ، هو لايعلم أن الشرطى يطلب منا الوقوف ، وإنما يعتقد أنه يطلب منه التلبية  .
ما إن وطأت قدمنا الحرم المكى وكان ممتلأ عن أخره بالمصلين هاله الموقف وهمس لى : ح يكفوا الناس دى ميه من فين ؟ ، قلت له : إسعى وطوف وإنت ح تعرف ، وهو غير مصدق ويقول لى مش مقدر الموقف إنت ، وعندما حان موعد الإفطار كنا نسعى بين الصفا والمروة ، جلسنا وإذا بالمياه الباردة فى كل مكان والخير الوفير ينهمر علينا ، وهو غير مصدق ويضع تحت الإحرام كل ماطالته يده خشية أن لا يكفيه الأكل
وعند إقامة الصلاة وجدنا تحت إحرامه مايكفى عشرة أشخاص ، الإمام يقيم الصلاة وهو يؤنب فى نفسه بصوت عالى ويقول ” هو الطمع مش عاوز يسيبك أبدا حتى فى الحرم ، ويقسم أن لا يأكل أدبا لها  ”  .
الصلاة  وختم القرآن خلف مشايخ الحرم المكى ” سعود الشريم ــ وعبدالرحمن السديس ” تقشعر لها الأبدان وتترك ذكرى تجعل النفس تهفو إليها دائما ، اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا ومهابة وبِرًّا ، هنا تنهمر العبرات خضوعا وإجلالا ، هنا تنهمر العبرات محبة وإشتياقا ، اللهم لاتحرم مسلما من زيارة بيتك المعمور .
ونحن فى طريقنا إلى المدينة المنورة قرب دخول الفجر كان الجميع يغط فى نوم عميق وأنا أتولى قيادة السيارة ذات الدفع الرباعى ، وفجأة وعلى مشارف المدينة المنورة هل علينا فيض من النور النبوى .. ضوء أبيض شاهب يبدد ظلام الليل يكاد يخطف الأبصار وفجأة يستيقظ الجميع وفى نفس واحد يصيحوا ” الله أكبر ” مشهد لايمكن أن يمحى من الذاكرة .
على مشارف مكة المكرمة هناك منفذ للوافدين وآخر للمواطنين ، والحقيقة أن الزحام شديد على منفذ الوافدين ويمتد لمسافات طويلة ، لذلك كنت أختصر المسافة وأختار الدخول من منفذ المواطنين رغم أنى أجنبى ،
وأزعم أنه لم يحدث أن إعترضنى أحد أو طلب هويتى ربما إعتقادا منهم أنى سعودى الجنسية الله أعلم
نظر جبريل إلى منفذ الوافدين المجاور لنا فوجد من يوزع وجبات ساخنة ، نظر إلى ساخرا وبحسرة قال : عامل لى فيها أمير أهم بيوزعوا أكل على الناس ، وهنا توقفت جانبا وحضر إلى من يسألنى : إيش فى ؟ قلت له العمال عاوزين أكل ، فقام وأحضر لهم كل واحد وجبتين
 وهنا إنفعل سليمان وقال له : ح تفضحنا يقولوا علينا جعانين ودار بينهما حوار طويل ومساجلات خلاصتها أن سليمان تهكم على جبريل أنه غير متعلم ، وأنه من أجل ذلك تم تجنيده فى قطاع الأمن المركزى ، أما هو فيفتخر أنه فى سلاح المدفعية .
كان سليمان قليل الجسم يعانى من إعاقة بسيطة فى قدمه جراء حادث ، وهنا نظر إليه جبريل المتزوج من أخته وقال : عارفين سليمان دا كان وظيفته إيه فى الجيش ؟ المدفع لما كانوا يحبوا ينضفوه كانوا يربطوا سليمان فى سيخ ويمرروه داخل ماسورة المدفع أكتر من مرة لغاية ما يلمع
وهنا إنفجر الجميع ضخكا ، ولم يكتف بذلك وبعد فترة قال : فى مره سليمان فلت من السيخ داخل الماسورة ، طيب يعملوا إيه . يعملوا إيه علشان يخرجوا سليمان ؟ قاموا ضربوا طلقة بالمدفع وأمسك برجل سليمان وقال وأدى النتيجة أهى .
حتى فترة قريبة كان التصوير ممنوعا أو أعتقد أن ” المطوعين ” جماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى المملكة كانت تحرم التصوير وكان من يضبط معه كاميرا يتم إحراج الفيلم منها وتكسيرها
والحقيقة أنه رغم عدم قناعتى بموضوع الحلال والحرام فى هذا الموضوع ، إلا أن مانراه الآن من التباهى بالتصوير أثناء السعى والطواف أخرج الناس عن السكينة فى آداء مناسكهم ، وكثيرا ماتجد من يطوف وهو يبث live  ” مشهد الداعية عمرو خالد إياه ”  .
سعيد من يجد له مكانا فى الحرم يعتكف فيه فى العشر الأواخر من شهر رمضان ، خرجت ذات مرة لقضاء حاجة لى ، وعندما عدت لم أجد مكانى ، هممت بالجلوس ، وإذا بأحدهم ينهرنى بطريقة مهينة ، ويطلب منى أن أنصرف بعيدا وهو منفعل
وهنا يأتى الطبع الصعيدى فى صورة برقيات تلغرافية تحمل معنى أدب الحوار لأننا فى أكرم البقاع وليس فى بيت أبيه ، قلت حتى وإن كان هذا بيت أبيك فلا يصح أن يكون هذا هو الإسلوب الذى يتم التعامل به ، وأردفت أن الدنيا قد ألهتكم عن الموت والآخرة ، وأنكم ظننتم أنكم بفلوسكم مخلدين فيها ..
والحقيقة أنى لم أدخر جهدا فى أخذ حقى من الرجل الذى إعتقدت أنه سعودى فى بادىء الأمر ، وجلست فى المكان الذى إرتضيته رغما عنه ، وهنا يبدو أن الرجل قد راجع نفسه ، ووجدته يعتذر ويتأسف
وتكرر ذلك مرات إلى أن هممت بالقيام لعدم تمكنى من قراءه القرآن ، وإذا به يسألنى من أنا ومن أى البلاد وما إن كنت صعيدى .. إلخ ، وإتضح لى بعد التعارف أنه من عائلة الصباح ” العائلة الحاكمة فى دوله الكويت ” وحاول تطييب خاطرى ويبدو أن  الدرس كان قاسيا عليه .
فى المشاعر المقدسة يمكن أن تلتقى ملوكا وأمراءا ورؤساء دول من كل بقاع العالم ، فى المسجد النبوى إلتقيت ” نواز شريف ” رئيس وزراء باكستان وقتها الذى صلى إلى جوارى ، كما إلتقيت الشيخ سعد العبدالله رحمه الله وكان ولى عهد أمير الكويت ، والأمير سلمان عندما كان أميرا للرياض
وأثناء الطواف حول الكعبة كان الشيخ ” خليفه بن حمد ” أمير دوله قطر يطوف والحرس يحيط به حاولت الإقتراب منه إلا أن الحرس أبعدنى بطريقه فيها شدة ، سألته الشيخ خليفه ؟ فأجاب بنعم قلت يا أخى وليه الشدة هو إذا كان فيه خير كان إبنه أخد الحكم منه ، ربت على كتفى وقال : طوف الله يهديك  .
 تأمين الشخصيات الكبرى أمر مرهق جدا وخاصة فى مكان مثل الحرم .. كنت دائما أشفق على رجال الأمن فى مهامهم وأمام أعيننا حادث إقتحام الحرم من قبل الإيرانيين وتدخل الكوماندوز المصرى .
جبريل كان دائم السؤال عن مقر ” التكية المصرية ” أو المبره ، وهي المكان الذى كان يقدم الطعام والشراب  للحجاج والمعتمرين القادمين إلى الحرمين من شتى بقاع العالم الإسلامي ، وكانت مكانا لإقامة المنقطعين ومقرا لموظغى بعثه الدولة المصرية .
وهى أحد أهم الشواهد التاريخية في المملكة المصرية على خدمة الحجاج والمعتمرين وبالقطع الحديث عنها يطول ، بقيت حقيقه يجب أن أشير إليها وهى أن أهل المدينة المنورة أكثر طيبة وسماحة من أهل مكة المكرمة الذين يغلب عليهم طابع التجارة وشطارتها وفهلوتها ولكن لا ننكر أنهم أهل كرم وجود أيضا  ..  كل عام وأنتم بخير
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.