حكايات الولاد .. والأرض

والدة الشهيد محمد سمير :" تمنى ولدى الشهادة بعد حادثة رفح الاولى"

كتب : محمد نبيل محمد
ما اجمل ان يرى الزارع فسيلته تكبر مع شروق شمس كل يوم , هو يرى فى نموها المتزايد صورة لكده وتعبه, وهذه الازهار اليانعة التى تتفتح كل صباح تأتى بالبشارات بكمال الجهد وحسن الزرعة, وتلك الثمار التى تجنيها ايادى الاحباب ما هى الا عطايا الحب والامتنان, وهكذا كان الشهيد زرعة امه التى ما ضنت بجهد من اجل تمام زرعتها , وهى التى جادت بطاقتها لتجعل من نبتها الصغير نخل باسقة تطول عنان السماء, من الان يفتخر بمن ؟! هل هذا الشاب الفتى الذى ضحى باغلى ما يملكه وهو العمر من اجل وطنه ؟ ام هذه الام البطلة التى حملت ووضعت وربت وعلمت وليدها على حب هذا الوطن ؟ ايهما يفتخر بالاخر ؟ الشهيد ام امه؟ كلاهما قدما للوطن اغلى ما يملكان , هذه الام قدمت للوطن وليدها ولا اغلى عندها منه , وهذا الإبن قدم روحه فداء للوطن ولا اغلى عند المرء من عمره كاملا, هى كانت تربيه على الانتماء لامه الكبرى وهو كان يكبر على رد الجميل لهذه الام الكبرى, تتفاجىء الام الكبرى باحداث 2001 ثم يأتى رمضان 2012 باستشهاد زمرة من رجال حرس الحدود لترتقى ارواحهم الطاهرة عند عتبات كمين الماسورة , ويلوح الحلم عند الوليد برد الجميل ويتوجه لامه راجيا منها ان تدعوا ربهما له بالشهادة فى سبيل الله وثأرا لشهداء الوطن , ما ثقلها من دعوة لتجرى على لسان الام وما اصعبه من شعور يجول بخاطر الام نحو وليدها وهى التى ارضعته حب الوطم وهى التى اقنعته ان امه الكبرى عندما تنادى لابد من تلبية , حتى جاء صباح صار فيه  الابن بطلا وامست الام بطلة, وتفاخرت الام الكبرى بهما!
الشهيد محمد سمير
والدة الشهيد محمد سمير تحكى من البدايات الاولى فى عمر وليدها:” .. ابنى شافته عنيا فى 1971 , وكان فرحتى انا ووالده الكتور سمير حسن فتحى , عشنا ف الاسكندرية وكان وسط اخواته زى جوهرة التاج , طبعا كلهم فى قلبى انما لمحمد معزة تانية خالص , كان من صغره طيب ويحب الناس وعشرى , ودايما يساعد الجيران لو احتاجوا اى مساعدة , من صغره راجل يعتمد عليه كل اللى حواليه , وزى كتير من الاولاد فى صغرهم يحبوا يلعبوا بالمسدسات وفى الاعياد يطلب من والده بدلة الظابط, عنيا مش ممكن تنسى اول يوم لبس بدلة الظابط بعد خامس عيد رمضان من عمره كانت مرسومة عليه وكأنه عارف انه حايكون ظابط,
ما كنتش مصدقة ان ممكن طفل صغير يتكلم عن بلده بالغيرة والحب اللى كانت فيها مشاعره ناحية مصر , كنت فخورة بابنى وانا باتكلم وسط زمايلى عنه كلامه عن بلده واحلامه انه يكون ظابط يدافع عنها, وتمر الايام وربا بعضها بسرعة واشوف ابنى فى اول يوم وهو رايح الكلية الحربية فى 1989 وحلمه اللى فضل سنين عمره وهو طفل يحلم به قرب يتحقق , وفى اول زيارة لاسر الطلبة بالكلية الحربية اثناء فترة المستجدين يجى ابنى زى البدر يهل علينا انا والده واخواته وكلنا فرحانين لفرحته انه قرب يحقق حلمهاللى ما كانش ممكن يتنازل عنه , وقلت له ساعتها:” فاكر اول مرة لبست فيها بدلة العسكرية يا حمادة” رد على وقالى :”ادعى لى يا امى اكمل المشوار” وتمر فترة المستجدين بالكلية وينزل محمد اول اجازة له فى الاسكندرية وكل الشارع يجى يهنينى ويدعى له الكبار والصغار حتى زماليه فى الثانوية واصحابه من الجيران كلهم طلعوا البيت يباركوا لمحمد كنت شايفة وحاسة فرحتهم به لانه كان بيحب زمايله واصحابه قوى وكانوا دايما يضحكوا مع بعضهم واسمعهم بيقولوا “محمد اجدع واحد فينا”,
كان هو اللى يجمع اصحابه يروحوا يقفوا فى افراح اخواتهم وقرايبهم , ولما تحصل حاجة او موقف حزين لاسرة حد من اصحابه كان ماينامش الليل الا لما يكون اول واحد يقف جنب صاحب الحالة , وكتير منهم حكى لى عن مساعدات محمد الخفية للاسر الفقيرة والناس المحتاجة , وكنت باسل عن ناس ما اعرفهاش حضروا الجنازة يقول لى اصحابه :”دول الناس اللى كان محمد بيساعدهم” , وتخلص سنين الدراسة فى الحربية ويتخرج نور عينى ويلبس البدلة العسكرية وعلى كتفه اول نجمة فى يوليو 1992 ضمن رجالة الدفعة 86 حربية ويفرح اهل الشارع كلهم بابنهم الظابط محمد اللى ما كنتش بازعل من مشاركتهم لى فى ضنايا لانى كنت حاسة انهم بيحبوه بجد, ويتوزع ابنى على قيادة وحدات حرس الحدود , وتقريبا محمد يقضى خدمته كلها على حدود مصر من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها دايما مسافر لعمله اللى كان مخلص له جدا لدرجة ان كل قادة محمد كانوا يثقوا فى اداءه لكل المهام اللى يوجهوه بها وكل زمايله كانوا بيشيدوا باخلاص محمد وتفانيه فى عمله”
تتوقف الام البطلة هنية عن الحكى وتطيل المظر الى صورة وليدها الذى يرتدى زيه العسكرى برتبة العميد تلك الرتبة الاستثنائية التى صدق عليها رئيس الجمهورية القائد الاعلى للقوات المسلحة تكريما لاستشهاد البطل اثناء احدى المهمات المكلف بها , وبجوارهذه الصورة برواز اخر يحفظ خطاب القوات المسلحة لاسرة الشهيد يدل على تقدير القوات المسلحة لابها البار بوطنه وتفانيه فى اداء واجبه تجاه هذا الوطن, تذهب الام بعينها وكأنها تنتقل بين بساتين حياة وليدها منذ ان كان طفلا رضيعا مع اول صورة لوليها عند ميلاده , ثم صوره اثناء فترات الدارسة المختلفة واصابعها تتحسس ملامح الوليد كأنها تتفحصه وتقف عند بعض الصور تتمتم فى صوت اقرب للصمت منه للجهر:”.. ديه صوتك وانت فى الابتدائى علشان امتحانات الابتدائية “, وتبتسم فى سعادة تشرق على وجهها عندما تمسك بصورة وليدها :”.. هههه صورة امتحانات الثانوية العامة وشنبك خاطط منور وشك يا نور عينى “
وشيئا فشيئا تتحول الابتسامة الى ضحكات دالة على الفرحة التى تغمر هذه السيدة البطلة وهى تفتح ظرف به صورة ضوئية لشهادة الثانوية العامة وتهمس:”الحمد لله من الاوائل زى ما كنت بادعى لك يا ضناى وزى ما كان نفسك تكون من المتفوقين”, وتمسك بكلتا يدايها على صورة جنازة وليدها فيتحول الضحك الى نحيب وتتلاشلى ملامح الابتسامة للترك مكانا لمجرى الدمع الذى اتخذ من كلثوميها مسار يعرفه ويعتاد عليه, وتعود الام البطلة لتحكى :”قبل الاستشهاد كان محمد كاتب على صفحته (الشمس تطلع والنجوم تغيب , والصغير يكبر والكبير يشيب, والدنيا تفرق والفراق صعيب, والعزيز عزيز حتى لو كان بعيد ) كأنه كان حاسس وعايز يسيب لى كلامه علشان يطمن قلبى , وفى يوم الاربعاء الموافق 14 ديسمبر 2014 جاءنى خبر استشهاد ضنايا , ما كنتش مصدقة انى مش حاشوفه تانى, وفى لحظة تذكرت قول الله سبحانه وتعالى (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون)
وكأن الله سبحانه وتعالى منحنى الصبر ووهبنى الاحتساب , ابنى كان فى مهمة جوية مع زمايله من مصر والامارات فوق منطقة الصحراء الغربية واراد الله ان يختصهم بالحياة عنده, هو احن عليه منى , انا عارفة ومتأكدة لكن رغم ايمانى بالقضاء والقدر وحكم الله فى ملكه الا ان قلبى وعينى يتمنوا يشوفوه , عموما هو على طول معايا اكلمه ويسمعنى ,  والله انا لما بيوحشنى اوى بشوفه فى المنام وفى اليقظة يمكن ما حدش يصدقنى لكن ديه رحمة ربى لى , وعدنى بالصبر والاحتساب , وانا عند ايمانى بربى ومتأكدة ان ابنى فى مكان احسن من كونه جانبى اكيد جوار الله وصحبة انبياءه افضل من جوارى “
يشع الحوار مع البطلة ام الشهيد بطاقة ايجابية لا مثيل لها والسيدة ما بين الحمد لربها والايمان الصادق بالوعد الالهى, وتعود للحضور وكأنها كانت هناك مع حبيبها, وتشير الى صور زفاف ابنها وصوره مع ولديه عبدالله وامانى ووالدتهما, وتبتسم وهى تحكى عن حفيديها:” دول بقى اللى ربنا عوضنى بيهم عن فراق ابنى, كانوا معايا وقت جنازة ابوهم ومعايا لما عزانى السفير الاماراتى , ودايما معايا لانهم عزائى وصبرى على فراق حبيبى”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.