لا يختلف اثنان على ان العطاء ليس هو السبيل للفناء, ولم يكن – ابدا – سببا للنقصان, بل على النقيض تماما , فما كانت النبتة التى صارت شجرة تتشبث جذورها بإعماق الأرض وتلابيبها. ويرتفع جذعها ليلامس عنان الأفق, وتتسع ظلال فروعها تلملم وتحوى اطراف جغرافيا المجال, اما ثمارها فهى حق للجميع القاصى كما الدانى , ولصاحب العوز كما المترهلة بطونهم, الجميع شركاء فى هذا العطاء اللامحدود , المتجاوز كرم الملموس الى السخاء الرحب للمجرد, فتجد من ينظم الشعر وغيره يسطر النثر وآخر يطلق الومضات للتصوير ورابع يهيم ابداعا بالرسم وعديدين يفترشون الظل وكثيرين يستقبلونها محرابا للحب , وللسفر فى ارجاء الشجرة المثمرة منافع عدة ومأرب أخرى , حتى ان كهوف المساكين من هذه الشجرة , ومنابر الواعظين من هذه الشجرة , وكد الحطابين ودفء السهارى من هذه الشجرة , ولن يمتد طريق قطار الا بهذه الشجرة ولن ينتصب عمود انارة الا ايضا بهذه الشجرة , والكثير بما تعنيه مفردة “الكثير” الذى لا يحصى عطاء من هذه الشجرة التى تشبه الى حد بعيد شجرة افلاطون فى عالم المثل , هى بقدر عميق كادت ان تكون مثالية كتلك التى تطل على عقولنا من نافذة المدينة الفاضلة , وهذه الدافئة اليانعة بين دفتى ادبيات اليوتوبيات , وهى التى نظنها – وهما – تسكن فضاء الخيال , أو تروح وتجرى مع مداد الكلمات فقط !, وفى الحقيقة هى كائنة مستقرة بيننا نراها ونتعامل معها نأخذ منها , ومنا الشاكرين ومنا دون ذلك , وهى الذات التى تعطى لكل من حولها , ودائما يكون العطاء سببا محوريا فى ثرائها وتنامى معطياتها , وهى الام وهى الاب والمرأة العاملة المعيلة والعامل المتقن والاديب الصادق والطالب المجتهد والتاجر الأمين والواعظ القدوة وهى كل هؤلاء وغيرهم , هذه الذات التى يراها البعض منا ويتوقف عندها يتحدث الى ذاته – الخجلة – ويقول:”لولا هذه الذات لما استمرت الحياة فى تطورها وارتقائها” والبعض الآخر يمر عليها صما وعميانا, وقليل يسخر منها ويعدها كأقنان الأرض أوكحطب نار المدفئة, وربما كان هذا حسدا من عند انفسهم , لانهم لو استطاعوا الاعتقاد فى العطاء وممارسة شعائره لما كانوا من هؤلاء الذين ننعتهم بشحيحى العطاء , هم من يمسكون خشية الفقر واعتقادا فى الندرة , وهم من يقتنعون بان العطاء سببا فى زوال النعم فمارسوا الشح حتى بخلوا على ذاتهم بأسمى نعمة وهى “الوجود” فصاروا لا يعطون الحب حتى مارسوا الحقد فكانوا مكروهين ممن حولهم , وهم ايضا لا يعطون العلم ونسوا ان العلم يزيد ويربوا بانتقاله الى الآخرين والا لما جاء الى مدعيه , وهم لا يعطون العطف فصاروا غلاظ القلوب , وهم لا يذرفون الدمع فتشبهوا بالتماسيح , وهم من لا تجد لديهم المروءة والشهامة والصدق والامانة , وهم من ضاق وجدانهم فلا ابداع يملكون , وهم من اسروا انفسهم طواعية وقيدوا ارواحهم جهلا فى غيابات الشح , وهم اصجاب اشياء لم يملكوها , لان قاعدة الملك: ان تملك القدرة على التصرف بالعطاء والهبة والتنازل وغيرها من صور التصرف فيما تملك , اما من لا يستطع ممارسة اليات التصرف فهو لا يملك ما يتوهم انه بيده , بل هو من امسى ذاتا مملوكة, مارست الشح حتى ضنت على التمتع بالوجود الحقيقى الى الوجود الصفرى , وهكذا محصلة مجموع هذه الذات لن تغير مجتمع ولن تطور انسانية هى بالكاد تجمدت فى مكانها انتظارا لأن تكون ارثا لغيرها من الامم والمجتمعات , اما الذات المثمرة المتجددة الطاقات الواهبة للوجود حيويته ونضارته هى ذاتا فى مجموعها تضيف للانسانية رصيدا من القيم والمبادىء كما تزيد من العلم وهى ايضا تثرى الوجدان الانسانى كما تتكرم بمعطيات الحياة, هذه الذات المثمرة هى الذات المتطورة, المتغيرة, المتحركة, والموقرة.
وسيأتى الحديث عن الذات الحرة والذات الحبيسة , ونستكمل فى القادم ان شاء الله لنبنى أركانا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وادراكه لامكاناته فى التغيير, وعلى الانسان ان يعيد تقيم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية قط وانما الباطنة أيضا, ويعود كما كان اجداده الأصل واصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.