في مفاجأة سياسية غير متوقعة خرج الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يوم الجمعة الماضية بعد أداء صلاة الجمعة وأمام جميع وسائل الإعلام ليعلن في تغير كبير للسياسة التركية تجاه القاهرة أن هناك تعاون اقتصادي وسياسي واستخباراتي مع مصر. بل وأضاف أنه ليست لديه مشاكل مع مصر وسوف تتحسن الأمور مستقبلاً بين الدولتين.
قبلها بيومين، أعلن وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو أن علاقات تركيا مع مصر تتطور ويمكن أن تتحسن مستقبلاً. أما وزير الدفاع التركي فقد أعلن أيضاً أنه يثمن احترام مصر لحدود الجرف القاري التركي خلال قيام مصر بأنشطتها للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط. بعدها خرجت وكالات الأنباء ومراكز الدراسات الاستراتيجية لتعلن أن تركيا مستعدة لإرسال وفود إلى مصر للتباحث بهدف تطوير العلاقات مع مصر.
ومن هنا تساءل الجميع عما يحدث، ولماذا أقدمت تركيا على هذه الخطوة في محاولة التقرب إلى مصر بعد أن تدهورت العلاقات بين الدولتين منذ 30 يونيو عندما تخلصت مصر من حكم الإخوان وإصرار إردوغان على دعم الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي. وتأتي الإجابة على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
أولاً : أن تركيا الآن أصبحت في عزلة دولية كبيرة نظراً لأن قواتها تحارب في 6 جبهات وهي شمال سوريا وشمال العراق وناجورنو كاراباخ وليبيا واليونان وقبرص وأصبحت تعادي الجميع.
ثانياً: تغير الموقف مع الولايات المتحدة الأمريكية ووصول جو بايدن للسلطة وبالتالي اختفاء الدعم الذي كان يمنحه دونالد ترمب لإردوغان وأصبحت العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية في وضع سيء مع إصرار بايدن على توقيع العقوبات نتيجة صفقة الصواريخ الروسية اس 400.
ثالثاً : أنه خلال الشهر الحالي من المقرر أن يجتمع قادة دول الاتحاد الأوروبي لتوقيع العقوبات على تركيا لاستمرارها في انتهاك السيادة لدولة قبرص بعد التحذيرات المتكررة من الاتحاد الأوروبي وعدم التزام تركيا واستمرارها في التحرش بالحدود القبرصية وهي إحدى دول الاتحاد الأوروبي. كذلك استمرار تركيا في مد الدعم العسكري للميليشيات في ليبيا مخالفة بذلك مخرجات مؤتمر برلين الذي أكد على عدم دعم أي من أطراف الصراع في ليبيا بالسلاح وعدم إرسال المرتزقة ألى هناك.
رابعاً : جاء ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان ضربة قاسمة للتواجد التركي في شرق المتوسط خاصة أن اليونان عدو تركيا اللدود، كما أن التقارب المصري اليوناني في كافة المجالات وخاصة التدريبات العسكرية المشتركة قد وضع تركيا في موقف لا تحسد عليه في الفترة الماضية.
خامساً : يأتي التقارب المصري القبرصي بعد ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وتنامي التعاون خاصة في مجال التدريبات العسكرية المشتركة.
سادساً : هناك تراجع كبير في الاقتصاد التركي حالياً أدى إلى تدهور سعر الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم وزيادة معدلات الفقر والبطالة والأسعار. كل ذلك يضع ضغطاً على تركيا بضرورة تغيير سياساتها في المنطقة.
سابعاً : نجاح مصر في إنشاء منتدى غاز شرق المتوسط (أوبك الغاز) بعضوية جميع الدول المعنية بالمنطقة ومعها الولايات المتحدة وفرنسا، بينما تركيا خارج هذه المنظومة تماماً.
ثامناً : لا يمكن إغفال الخسائر التي تلقتها تركيا مؤخراً من قطع العلاقات الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي بعد الهجمات السياسية والإعلامية على السعودية في أزمة مقتل جمال خاشقجي.
ونتيجة لذلك أوقفت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي السياحة إلى تركيا مما كبدها خسارة نحو 3 مليار دولار سنوياً. كذلك تم إيقاف استيراد الخضروات والفاكهة من تركيا التي كانت تتم يومياً بخسائر سنوية وصلت إلى 3 مليار دولار.
كما انخفض حجم التبادل التجاري لضعف الاستيراد من هذه الدول بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى استياء أعضاء البرلمان التركي الأسبوع الماضي من الأضرار الكبيرة الناتجة عن توقف التبادل التجاري بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي.
تاسعاً : يأتي تغير الموقف في ليبيا ووصول قيادات جديدة بعد موافقة البرلمان الليبي على تشكيل الحكومة الجديدة والتصميم على خروج القوات الأجنبية (المقصود بها القوات التركية) والميليشيات والمرتزقة، الأمر الذي سيضعف من نفوذ تركيا في ليبيا خلال الفترة المقبلة.
عاشراً : التقارب السعودي اليوناني الذي حدث مؤخراً وقيام السعودية بإجراء تدريب عسكري مشترك مع اليونان العدو اللدود لتركيا.
حادي عشر : أنه على الرغم من أن سياسة مصر الخارجية لم تتعرض إلى تركيا خلال الفترات السابقة، لدرجة أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يذكر اسم تركيا أو رئيسها ولو مرة واحدة منذ توتر العلاقات بين الدولتين،
إلا أن هناك أصوات داخل تركيا قامت بتحذير الرئيس التركي أن مصر لن تسكت طويلاً أمام ما تفعله تركيا من إيواء عناصر جماعة الإخوان الإرهابية واستضافة ودعم المنصات الإعلامية التي تهاجم ليلاً ونهاراً. ويمكن لمصر أن تتخذ موقف مماثل وتسمح لعناصر حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK) من العمل من مصر أو أن تفتح منصاتها الإعلامية وتسمح لحزب العمال أن يطلق منصات إعلامية باللغة التركية من داخل مصر تجاه نظام إردوغان.
صحيح أن تلك ليست سياسة مصر، لكن هناك أصوات في القيادة التركية تحذر إردوغان بأن استمرار العداء ضد مصر ليس في صالح تركيا.
ثاني عشر : أن أحزاب المعارضة التركية وعلى رأسها الحزب الجمهوري دائماً ما ينتقد إردوغان متسائلاً عن أسباب العداء مع مصر، مع أنها أكبر دولة في المنطقة والعداء معها يكلف تركيا الكثير والكثير. ومع كل هذه الضغوط الاقتصادية داخل تركيا، فإن أصوات المعارضة أصبحت مسموعة وتلقى قبولاً متزايداً يوماً بعد يوم.
وفور إعلان إردوغان هذه التصريحات ليلة الجمعة الماضية أعلنت مصر في بيان دبلوماسي هادئ تعقيباً عما صدر من المسئولين الأتراك على مختلف المستويات أن ما يطلق عليه استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين هي قائمة حتى الآن على مستوى القائم بالأعمال وفقاً للأعراف الدبلوماسية، وأن الارتقاء بمستوى العلاقات يجب أن يكون على أساس احترام مبدأ السيادة وحماية الأمن القومي المصري والعربي، وأن مصر تؤكد أن أي دولة تتطلع إلى إقامة علاقات طبيعية معها فعليها أن تكف عن محاولات التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة.
ومن ذلك كله نعود إلى ما قاله السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد اللقاءات – ولم يكن موجهاً لتركيا بالتحديد – أن مصر تنتظر من كل الدول الأفعال وليس الأقوال. لذلك نقولها بوضوح أنه إذا أرادت تركيا أن يكون لها علاقات سوية ومتزنة مع مصر، يجب عليها أن توقف هذه المهاترات حول احتضان عناصر جماعة الإخوان في تركيا وهي تعلم أن مصر قد صنفت هذه الجماعة كجماعة إرهابية وأن احتضان تركيا للعناصر المعادية لمصر والتي تهدف إلى هدم الدولة المصرية هو أمر غير مقبول.
كذلك استضافة تركيا للمنصات الإعلامية التي تبث سمومها ليل نهار ضد مصر وشعبها أمر غير مقبول وفقاً لكافة الأعراف الدولية. ويأتي بعد ذلك تدخل تركيا السافر ضد الأمن القومي المصري بتواجد قواتها العسكرية في ليبيا، الدولة المتاخمة للحدود المصرية، مع استمرارها في الدفع بالمرتزقة من شمال سوريا إلى ليبيا لخلق حالة من عدم الاستقرار هناك وبالتالي تهديد الأمن القومي المصري. كما أن قيام تركيا بنشر قواتها في كل من سوريا والعراق قد ساهم في زيادة حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
عموماً فإن المصريين في الفترة القادمة ينتظرون ما ستقدم لهم تركيا بالأفعال وليس الأقوال، فالشعب المصري وقيادته لن ينخدع أبداً بالأقوال والكلمات المعسولة، لذلك فإن الكرة الآن في ملعب القيادة التركية وعليها أن تترجم ذلك بوضوح بعدم تهديد الأمن القومي المصري والعربي.. بعدها يكون رد شعب مصر وقيادتها!