تحدثنا عن ان ادراك الانسان لماهية وجوده بشكل يمكّنه من اكتشاف طاقات الخلق وامكانات الابداع الكامنة فى خفايا ذاته, و ربما يرجع الفضل فى هذا الاكتشاف الاعظم – اكتشاف الذات – ما يؤدى الى ممارسة الانسان لاليات تحققه , من خلال تفاعل المكونات الخمس للانسان الحقيقى وليس للانسان الصفرى , وهى ذاتها المكونات التى تمكنه من التغير للأفضل والتحرك نحو الارتقاء بانسانيته , يبقى تفاعل الضمير والعقل والروح والنفس معا ليشكلوا جميعا طبيعة العنصر الخامس الاكثر ظهورا وألقا بين بنى الانسان , ونتحدث هنا عن “الذات” , وسابقا كان الحديث عن الذات الموقرة وغيرها من الذوات الطافية والهشة , وصفاتهم جميعا , وسلوكياتهم ومظاهر تميز احداهن على الاخرى , وكان علينا ان نعيد التساؤل من جديد الى اى ذات نرغب فى ان ننتمى : الذات الموقرة , ام الطافية والهشة؟! والآن يأتى الحديث عن الذات الثابتة والذات المتحركة , وربما اول ما يتبادر الى الذهن هو الصراع الجدلى الفلسفى بين نظريات التغيير والثبات , وادبيات الصيرورة والجمود , وتمنحنا اللغة الثرية رحابة التجول بين مفردات الثباب ومرادفاتها ومفردات الحركة واخواتها , وجميعهن يتنقلن ما بين الإيجابى من صفاتها الى السلبى منها , فربما كان الثبات يعنى الرزانة والحكمة والتحمل وايضا قد يعنى الجمود والتبلد والتأخر, وقد تعنى الحركة التطور والارتقاء والتقدم , وايضا يذهب البعض بالحركة الى التقلب والتلون والتظاهر , ولكن الامر هنا محتلف نوعا ما فاختيارنا الى اى الطريق نسير , يعنى – حتما – وصفا لذاتنا , لان الاختيار يعكس طبيعة الانسان ومعارفه وخبراته وقدراته على الانتقاء والتمحيص من عدمه , فمن يختار من الحركة اساسا لوجوده ينتمى الى هريقليطس وهو اول من نحت اصطلاح الصيرورة والذى يعنى هنا التغيير والتجديد والنشوء والارتقاء حتى انه قال :” لا شىء فى هذا العالم ثابت عدا التغبير” , وبالغ فى اندفاعه ناحية التغيير كأساس للوجود الانسانى حتى صرح بمقولته الأشهر :”لا شىء يبقى على حاله” معتقدا انه لا وجود للذات الانسانية دون تغيير وتحرك نحو الامام والارتقاء تجاه الاعلى , وعلى العكس منه تماما كان ايمبيدوكليس الذى روج بشكل قاطع الى الثبات منبها الى ان التغيير هو محض خيال فى عالم الحقيقة الثابتة , ولداوود الملك فى سفر الجامعة (1-12) هنا فصل حديث :” ما كان فهو ما يكون والذى صنع فهو الذى يصنع , فليس تحت الشمس جديد ” وقال ” الريح تذهب الى الجنوب وتدور الى الشمال تذهب دائرة دورانا والى مداراتها ترجع الريح ” وقال ” ان وجد شىء يقال عنه انظر هذا جديد ! فهو منذ زمان كان فى الدهور التى كانت قبلنا ” كما جاء فى العهد القديم , واذا اردت ان تتحدث عن تداول الايام , وعن كل يوم هو فى شأن , وغيرها فى النصوص المقدسة ستجد ما يؤيد مبتغاك من الحركة فى شكلها الايجابى والثبات فى معناه الأسمى , وكذا يسوق علم الاحتماع لمؤسسه ابن حلدون الاندلسى وليس اوجست كونت الفرنسى الى معنى مشابة للتغيير الذى يميل الى المنحى الايجابى فى الحركة وهو التطور والتحضر كما فى مقدمته التى تناولت قوانين العمران البشرى فى بابه الاول والبدوى فى الثانى والحضرى فى بابه الثالث ضمن ابوابه الست لمقدمته الخالدة , وهنا يدور الجدل المعرفى بدءا من النص المقدس الى الفلسفى مارا ببدايات علم الاجتماع الى علم اللغة , تبحث الذات عن الحركة بهدف التغيير للافضل والارتقاء لأعلى وتحقق الوجود الانسانى المتحضر , وقد تسعى الى الثبات على المبدأ ومقاومة الوافد الهدام من الأخر وترفض الحركة نحو التغير القادم مع ريح الأعادى , لكن هنا وقفة حتمية وكاشفة لمعنى الثبات فى مواجهة التغير السلبى الوافد , هل هنا المقصود هو الدفاع من خلال السكون ام باليات الحركة , واجد من المحتم طرح احدى اهم نظريات الدفاع وهى :” ان الهجوم هو خير وسيلة لتحقيق دفاع ناجح” وبالتالى يستوجب الثبات على المبدأ هنا الحركة فى حد ذاتها انتقالا من الثبات الى الفعل وفى هذا اعتناق لمسارات التغيير , ولذلك على الذات ان تكون متحركة دائما اما فى حالة الدفاع عن ثوابتها , او سعيا للتطور والارتقاء , وتكون معانى الحركة اكثر تحققا ووجودا لذاتها قياسا لمعانى الثبات التى قد تؤدى بذاتها الى الفناء والهلاك واللاوجود , وبالتالى تأتى مقدمة المعادلة المنطقية التى تفصح عن ان الحركة المخططة , المحسوبة , الممنهجة , اليقظة تؤدى – كمقدمة معادلة – الى نتيجة – متوقعة منظقيا – وهى التطور والتحضر والتحقق واثبات الذات , اى ان الذات المتحركة ذاتا موجودة , ومقابلها الذات الثابتة التى هى ذات صفرية تتحقق باضافتها الى غيرها وليس بوجودها المنعدم اللامحسوس , وبدا جليا من المقارنة ان الذات المتحركة ذاتا تتجول فى حال المكان وظرف الزمان , وتتطور لتكون هى مواقيت للزمان ومحطات للمكان , عكس هذه الذات الثابتة التى يتخطاها كل شىء , ولا يعيرها المكان اهتماما الا كما يعطى لسكان القبور حيزا ينتهى ويتلاشى فى زمان وجيز.
ولكل ذات حرية الانتماء ما بين الذات المتطورة المتغيرة المتحركة او تلك الذات الثابتة الجامدة المتبلدة الرجعية, ونستكمل فى القادم ان شاء الله لنبنى أركانا جديدة فى المصرى الجديد بعد اكتشافه لذاته وادراكه لامكاناته فى التغيير, وعلى الانسان ان يعيد تقيم ذاته ليرسم بيده ملامحه ليست الشكلية قط وانما الباطنة أيضا, ويعود كما كان اجداده الأصل واصحاب الفعل وليس الشبه والمفعول به!.