الرسالة !
كانت الرسالة على مكتب القائد ضمن رسائل وأوراق ووثائق لاحصر لها صنفت بعناية دقيقة بحيث تلحظها عين الوزير بمجرد ان يجلس على مكتبه كما اعتاد فى الصباح الباكر , مظروفا عاديا جدا فى شكله غير ملفت للانتباه الا من تواضعه , هو الابرز فوق تلك الرزمة من الاوراق التى تنبئ بيوم شاق عمله , تتحسس يده المنحوت عليها تعاريج الزمن والمجسم عليها شرايين غليظة تتشعب الى اصابع تشبه مؤشر خرائط الاستنزاف والهجوم ، وتتدفق فيها دماء اصدقاء الميدان , ويبدو انه قرر ان يبدأ بهذا المظروف (الابيض) , .. اتشرف انا ايمان كريمة الشهيد النقيب محمد قائد سرية الهاون بالكتيبة السادسة عشربدعوة سيادتكم لا لحضور حفل زفافى انما بالوفاء بالوعد … , وتبرق عينا القائد اذ تستدعى شريط السينما للمعركة الصينية التى تتلاحق سريعا فى مخيلته الى ان تبطىء فى مشاهد يظهر فيها النقيب محمد ورجاله على مدافع الهاون , والذى يصر فى عزيمة اسطورية للدفاع عن الكتيبة والتمسك بالارض رغم تلاحق موجات القذف المعادى على موقع الكتيبة .. وتتحرك شفاه القائد مندمجا بالمشهد بصوت حازم : اترك الموقع ياسيادة النقيب حالاً.
ويأتى الرد حازما أيضاً : على جثتى يافندم ,,
لن اتركك يا فندم
وتستعر الجحيم فى موقع الكتيبة,
ويرى القائد نفسه فى المشهد وهو يعلن مع رجاله شهادات النصر ورغم امطار الدانات المعادية يستتر بثنايات الارض التى يعشقها وتعرفه جيدا، وصولاً للنقيب محمد ليجده ملتصقا بمدفعه الذى اذابت ماسورته حرارة الطلقات غير الاعتيادية , ويداه شبه ذائبتين وهما قابضتان على قاعدة مدفعه , والبطل على مشارف العروج للسماء يشير اليه بعينيه للاقتراب منه ليسره امرا هاما : يافندم اوعدنى تشهد على فرح بنتى اللى ما شوفتهاش .. اصلها اتولدت من ايام ! وبالكاد يستجمع مابقى له من قوة لترتسم ابتسامة نصر على وجهه , ويبدوا انها اعتزمت الا تفارقه .
القائد : اوعدك..(محتضن جثمان زميله وبقايا مدفعه معا وكأنهما مخلوق واحدا).
وتدمع العين القارئة للرسالة والمعاصرة لمشهد صاحبها وهو يأمر رجاله بدفن جثمان الشهيد الملتصق بمدفعه فى جوف سيناء , .. بجوار يافطة عليها (فى حضن سيناء .. الرجال والسلاح) .
وتختتم ايمان : ابى لم اراه الا صورة فى زاوية بالحجرة الأهم بمنزلنا جعلتها امى موضعا للصلاة , وعلى مدار ثلاثة وعشرين عاما احلم بأبى وأجاذبه اطراف الحديث نختلف بعض الوقت , ونتفق كثيراً , وكما عودنى من لم اراه الا فى امى أن ارجو من الله وفقط ! ورجائى اليوم ان اراى والدى يوم زفافى فى عيون اصحاب الميدان لأحظى بشرف الرفقة ليلة زفافى .
توقيع : كريمة الشهيد النقيب محمد عبد العزيز
يبداء الفرح بقبلة على جبين العروس كانت أمانة بين الرجال من زمن الجمر والبشارة