اتم صلاة الفجر وتوجه نحو شرفته يتكىء على أطراف أنامل يده اليسرى ويلقى برأسه إلى راحة يمينه , يتأمل الدنيا بنظرة لم يكن يفسر طلاسم حواراتها الا هو وحده , وأخذ يتمتم بدعوات منها الجهر وأكثرها سر مع ربه , وعندما أنهى ورده اليومى وكان بالمصادفة هذا الصباح سورة ( يس ) , ودعى بصوت رخيم هادىء للراحلين وبكى عندما ردد لسانه أسماء زملائه من الشهداء , أطال النظر إلى السماء حتى لامست هامته سحائب البركات , وكاد من شموخ جبهته أن يشبه الجبل , فانحدرت لآلىء الدمع من علياء القمة تجرى فى دروب شقت مساربها سابقتها خشية من الله تارة وأخرى خوفا على الوطن , وفجأة أماء برأسه يمنا ويسارا كأنه يحيط الدنيا بنظرة واحدة من شرقها إلى غربها , ويهم منتفضا كأنه أنهى ما أراد , أو تقريبا هكذا , عندما سمع هدير محرك السيارة الاميرى تتوقف تحت شرفة المنزل معلنة مع قدومها نهاية تأمله , فهب لنداء الواجب المعتاد يوميا .
وتبدأ الحكاية على لسان ابنته مها التى مازالت تردد انها تراه يوميا فى كل مكان تذهب اليه , وتقسم انه يحدثها فى كل امورها , ومازالت تعتمد على رأيه عندما تختلط عليها طرقات الدنيا , هى تبدأ الحكى من الفيوم :” والدى من مواليد الفيوم , وتعلم بمدارسها ومنها مدرسة جمال عبد الناصر , وعندما التحق بكلية الشرطة التى كانت حلم حياته الثانى , وكان الاول هو ارتابطه بجارته التى احبها وهى مازالت فى دراستها الاعدادية وهو بالثانوية العامة ,
ولكن كيف له ان يتقدم لتحقيق هذا الحلم وهو مازال يرى ان الاهم له من هذا الحب هو حبه الاكبر , كانت والدتى تحكى لنا أنا واخى محمود الاكبر واختى منى الصغرى عن مشاعر مختلطة لدى والدنا ما بين حبه لها وعشقه لوطنه , لم نكن ندرك معانى الانتماء للوطن الا عندما كنا نراه يدعو لمصر فى صلواته , وكثيرا ما اسأله :” لماذا مصر يا بابا ؟” فيقول :” ديه امى الاولى وام كل المصريين , فى انسان ما يدعيش ربنا انه يحافظ على امه ؟! ” وابادر بالرد التلقائى :” طبعا ما فيش يا بابا ” فيقول :” علشان كدة يا مها خلى نصيب من دعواتك دايما علشان مصر , بلدنا محتاجة حبنا ويمكن يجى يوم علينا نضحى بحياتنا علشانها واحنا سعداء ” ,
وتعود مها ابنة الشهيد لحكيها عن والدها :” فى 22 اغسطس 1985 تخرج والدى فى كلية الشرطة وبعدها بقليل تحقق حلمه الثانى وهو زواجه بوالدتى , وتعاونا كأى أسرة مصرية فى تربية اولادهما الثلاثة حتى تخرجت انا من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومحمود من كلية الشرطة ومنى من كلية الاداب , ويحصل والدى على العديد من الفرق الدراسية والتدريبية التخصصية ومنها إنقاذ الرهائن ومكافحه الإرهاب الدولى بالولايات المتحدة الامريكية بالاضافة لاتمامه جميع الفرق التدريبية للأمن المركزى , وكُرم مرتين من وزير الداخلية لسنه 1999 و2008 ولا افضل من تكريم الله تعالى للشهيد حيث نال أبى أعظم تكريم الا وهو الشهاده من الله عز وجل سنه 2014″.
وتبدأ ابنة البطل فى اعادة تجميع قواها لتعاود الحكى من جديد فى صلابة وقوة يبدوان وانهما من إرث والدها لها :” صباح يوم الاربعاء 22 ابريل لعام 2014 ووالدى ينوى النزول الى عمله كالمعتاد , ويودع والدتى , فإذا بى انا واختى ننتفض من هول صدمة دوى انفجار شديد هز ارجاء البيت , وهو فى حقيقته قد اتى على قواعده , ونتوجه ناحية الشرفة ووالدتىى تصرخ وتشير ملوحة بيدها تجاه والدى فتنتقل نظراتنا الى موضع اشارتها وانا واختى نكذب ما نرى , كان ابى ممددا على الأرض لا نرى منه سوى ابتسامة رضا وملامحه مخضبة بدمائه الذكية ينادى – بأعلى ما جاد به صوته حينها – اشهد ان لا اله الا الله واشهد ان محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) , ولا ادرى كيف انتقلنا من مكاننا الى الشارع ونحمل والدنا الى مستشفى أكتوبر العام ونحن معه لا نسمع منه الا الشهادة التى رحل وهو يرددها على اسماعنا “.
تهز البطلة رأسها معنلة الاستسلام لقضاء الله تعالى وتستكمل :” كان الاوغاد قد زرعوا عبوة ناسفة اسفل سيارة والدنا وبمجرد تحركه بها انفجرت به”.
كدات الحكاية ان تنتهى الا من اصرار البطلة مها ابنة الشهيد من تسجيل شهاداتها عن والدها :” كان محبا للحيوانات مشفقا عليها بشكل ملفت للانتباه , وكثيرا ما يملىء بيده قوارير الماء وأوانيه يوزعها على الشرفة ويتعهد اماكن الظل منها وعندما سألته ذات مرة قال :” حطى المية فى الظل لتبقى رطبة حتى تتمتع بها طيور الله وتسقى رمقها ” ثن نظر الى نظرة لن انساها قط وقال وهو يربت على كتفى بحنان عجيب :” لما تعملى الخير اعمليه صح علشان تاخدى حسناتك كاملة “, وتستكمل :” كثيرا ما كنت اشاهده يهدى الاولاد الصغار حلوى وهدايا وكان عطوفا محبا للاطفال لاقصى مدى ” , وتستشهد بكلام زملاء والدها :” كانوا يقولون عنه (أسد المعسكر) , خاصة بعد مشاركاته فى دوريات جبل الحلال ومداهمات كثيرة على أوكار الارهابيين فى سيناء ,
ولم يطمأن قلبى الا بعد القبض على قتلة والدى المنتسبين الى أجناد مصر تلك الجماعة الارهابية التى اقتص العدل منها جراء فعلتهم النكراء ضد والدى وضد مصر محبوبته الاولى , لن انسى والدى عندما دعى ربه لا داء العمرة فقلت له :” تانى يا بابا ” قال لى :” العمرة ديه علشان اوهب ثوابها لابطال دافعوا عن بلدنا زى رافت الهجان وكان فور سماعه بخبر وفاته, والمرة الثانية التى لن انساها عندما علم بترشيح وزير الدفاع المشير عبد الفتاح السيسى لمنصب رئيس الجمهورية , فخر ساجدا حامدا لله “. هذا هو ابى الذى علمنى كيف احب مصر.