جيهان عبد الرحمن تكتب :أحفاد هنومه

بينما كانت هنومه (هند رستم) تجري حاملة الجردل الممتلئ بالمثلجات بين عربات القطار لتتكسب قوت يومها بضعة قروش من الحلال لتستطيع الزواج من أبو سريع الشيال (فريد شوقي) المهموم بقضايا الشيالين ويسعي لعمل نقابة لهم. كانت هي طوال أحداث فيلم باب الحديد إنتاج 1958 تمثيل وإخراج يوسف شاهين في حالة هروب من العسكري الذي يلاحقها بإيعاز من منصور(أحمد أباظة) صاحب البوفيه الرسمي في محطة مصر, كانت تجد قبول وتعاطف كبير من جمهور المسافرين الذين يفضلون الشراء منها ربما لخفة ظلها وجمالها وسرعة حركتها مما يزعج صاحب البوفيه الذي يراها منافسة قوية له وتسرق منه الزبائن وكان دليل الاتهام الجردل الذي دأبت علي إخفاؤه لطمس معالم الجريمة, وبعيدا عن دراما الفيلم الذي رشح لجائزة الدب الذهبي عام 1958, إلا ان هذا المشهد تحديدا رغم مرور أكثر من نصف قرن يتكرر يوميا في عربات مترو الأنفاق عام 2020 في مطاردات شبه يوميه بين حملات الشرطة علي الباعة الجائلين.
شاب ثلاثيتي صعد عربة السيدات في غير أوقات الذروة لبيع الجوارب, أربعة جوارب بعشرة جنيهات وفوجئ بأن هناك حملة في المحطة التالية ولا مكان له للاختباء عن الأعين, فما كان من السيدات وبدون تفكير مسبق أو ترتيب بينهن تقف أحدهن وتجعل من جسدها ساترًا للشاب الذي جلس القرفصاء محتضن حقيبته, فيكتمل المشهد بمتطوعات أخريات كل منهن تضع اللمسة الحانية الخاصة بها لإخفاء الشاب, وبالفعل يصعد ضابط الحملة, ويخرج خالي الوفاض, وفور غلق أبواب العربة تتصاعد الضحكات وترنيمات الحمد لله, ويبيع الشاب كما لم يبع من قبل في حالة من التعاطف الإنساني التي يصعب وصفها, خاصة بعد ترسيخ معني أن الهدف من الحملات ليس تنظيم البيع العشوائي, بقدر ما هو حصدا للغرامات, ومصادرة البضائع بشكل مهين ومشاركة الفقراء في أرزاقهم.!
أم أحمد بائعة الفطير المشلتت والتي تأتي يوميا من الشرقية حاملة بضاعتها نحو ثلاثين فطيرة لتبيعها علي زبائنها في المترو, وقعت في قبضة الحملة قبل أن تبيع فطيرة واحده ولا تملك مبلغ الغرامة وقدره مائة جنيه, وحتي لو كان معها هذا المبلغ فلن تستطيع استرداد بضاعتها قبل العاشرة مساء من المكتب الرئيسي, أي ستكون بضاعتها قد تلفت بالفعل, أنفطر قلبها وكادت عينيها تصبح حردا من البكاء علي بضاعتها التي قدرتها بستمائة جنيه, ورفضت بكل عزة نفس أية مساعدات عرضت عليها, بل رفضت مواساة بعضهن ونصيحتهن بأن تذهب للضابط المسئول تستعطف قلبه قبل فساد بضاعتها, لكنها قررت العودة مسلمة الأمر لله وحده.
ولأنني من راكبات المترو أعترف لكم أني أتعاطف معهم بل أجد راحة ومتعة في الشراء من هؤلاء التعساء الذين خلقوا لأنفسهم وسيلة شريفة لكسب الرزق بدلا من التسول أو السرقة, فلا توجد دولة في العالم تخلو من الباعة الجائلين خاصة مع ارتفاع الأسعار والمحال التجارية مثقلة بالضرائب وأجور العمالة وفواتير الكهرباء التي يتحملها المستهلك بطبيعة الحال, ولهذا ثمة علاقة وطيدة بين البائع المتجول الباحث عن فرصة عمل شريفه وبين المواطن الذي يريد سد حاجته ولو من بضائع رخيصة أيًا كان نوعها, صحيح أن الأمر في حاجة إلي تنظيم بدلا من المطاردات التي قد يشوب بعضها القسوة والمهانة ولهذا يكتسب البائع تعاطف من حوله خاصة في عربة السيدات بالمترو.
في مارس الماضي كانت ثمة مطالبات من لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب الحالي بضرورة تعديل قانون الباعة الجائلين لتنظيم وتقنين أوضاعهم وإصدار تراخيص لمزاولة المهنة, وحل مشاكلهم خاصة في الأماكن المزدحمة, وعمل قاعدة بيانات لهم علي مستوي الجمهورية. لكن يبدو أن الأمر لدينا يسير بمنطق جباية الغرامات بعيدا عن أية فلسفة حقيقيه لحل مشاكل هؤلاء.
وكأن هنومه بطلة باب الحديد مازالت هاربة بالجردل والمثلجات منذ عام 1958 وحتي الأن, أو أن حفيدها بائع الشربات عاد بعد أثنين وستون عاما ليواصل مسيرتها, فربما نجح( أبو السريع) وفق أحداث الفيلم الشهير في عمل نقابة للشيالين, لكنه لم يفكر في عمل نقابة للباعة الجائلين, يحتمون تحت ظلها ويعملون بشكل رسمي أمن بدلا مما نشاهده من مظاهر سلبيه غير إنسانيه كمصادرة البضاعة أو طرحها في الأرض وإفسادها وسط سخط ولعنات وحسرة أصحابها.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.