هناك مبدأ هام في علوم الاستراتيجية والأمن القومي أن أي دولة عندما تتعرض لعدة أزمات وعلي عدة جبهات فإنه يجب علي هذه الدولة التركيز علي جبهة واحدة وأزمة واحدة وإيقاف باقي الأزمات والجبهات حتي تنتهي من هذه الأزمة الرئيسية التي يتم تحديد أولوياتها لخطورتها وتأثيرها علي الأمن القومي للدولة.. وبنظرة لما يحدث الآن في تركيا نجد أنها تتصرف خلافاً لكل الأعراف والمفاهيم والعلوم الاستراتيجية.. وجدنا دولة تحارب في عدة جبهات في نفس الوقت حيث وصلت الي فتح عشرة جبهات.
فالرئيس التركي حالياً يقاتل حالياً في الجبهة الأولي في شمال سوريا حيث مازالت تركيا تحتل أجزاء كبيرة منها وأصبحت تسيطر علي شمال سوريا حتي أن العملة التركية أصبحت أساس التعامل هناك للشعب السوري وبالتالي أصبح تواجد القوات التركية هناك استنزاف لموارد الدولة التركية.. وجاء الاتجاه الثاني في شمال العراق حيث تنتهك القوات التركية سيادة العراق بالقصف الدائم لمواقع كردستان العراق بل يصل الأمر في بعض الأحيان لتنفيذ عمليات قتالية بقوات أرضية للقضاء علي العناصر الكردية في شمال العراق وهو بالطبع أيضاً استنزاف للموارد التركية.
أما الجبهة الثالثة فبدأ بتدخل أردوغان في الصراع بين حكومة أذربيجان وأرمينيا في النزاع القائم بينهما حول إقليم ناجورنو كاراباج بل وقامت تركيا بدفع مرتزقة سوريين للقتال مع قوات أذربيجان ضد الأرمن وعندما توقف القتال طالبت تركيا بوجود قواتها ضمن عناصر حفظ السلام وهو الأمر الذي رفضته روسيا لكن تم الاتفاق علي وجود غرفة عمليات في تركيا لمتابعة تطبيق اتفاق السلام ووقف اطلاق النار،
أما الجبهة الرابعة فهي علي الاتجاه الليبي حيث بدأت تركيا في البداية بدفع عناصر المرتزقة من شمال سوريا لدعم حكومة فايز السراج ودعمته بالأسلحة والمعدات من العربات المدرعة والطائرات المسيرة بدون طيار مع تواجد القادة الاتراك العسكريين في قيادة طرابلس الأمر الذي دفع كفة الميزان العسكري لصالح قوات السراج وانتهي حصار قوات حفتر لطرابلس العسكرية وبعدها قامت تركيا بعقد اتفاقية أمنية وترسيم الحدود البحرية الليبية بهدف استغلال الثروات الليبية وهو الأمر الذي لم يوافق عليه البرلمان الليبي ولكن جاء اتفاق ترسيم الحدود البحرية المصرية اليونانية ليقضي علي آمال تركيا في التنقيب علي الغاز أمام السواحل التركية وحالياً تحاول تركيا المستحيل لإفساد المباحثات بين الأطراف الليبية لإعادة الاستقرار في ليبيا بهدف استمرار تواجدها علي الأرض الليبية وهذا الأسبوع خرجت تركيا مرة أخري بطلب أن تكون مسؤولة عن تنفيذ العمليات الأمنية للمطارات والمنشآت الليبية تدار وتنظم بمعرفة الشركات والخبراء الأتراك علي أساس المشاركة في عملية إعادة إعمار ليبيا مستقبلاً.
أما الجبهة الخامسة فهي العودة الي أثاره المشكلة القبرصية من جديد حيث قام أردوغان هذا الأسبوع بزيارة مدينة فاروشا القبرصية والتي وصفها الرئيس القبرصي بأنها زيارة استفزازية لأنها لا تساهم في استئناف المحادثات للوصول الي حل للمشاكل القبرصية وبالتالي فإن إثارة المشكلة من جديد لم تكن في الحسبان وهي العودة الي حل القضية القبرصية من خلال الدولتين وهو أمر يرفضه المجتمع الدولي وبالتالي أثار ذلك موجة من التوتر في المنطقة من جديد..
أما الجبهة السادسة فهو التوتر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بسبب قيام تركيا بأعمال التنقيب أمام سواحل قبرص أحد دول الاتحاد وقيام بدفع السفن التركية للتنقيب عن الغاز.. الأمر الذي دفع قبرص لتقديم شكواها للاتحاد الأوروبي لذلك اعلن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أن الاتحاد الأوروبي مقبل علي اتخاذ قرارات صعبة ضد تركيا بسبب انتهاك تركيا سيادة أحد دول الاتحاد وهي قبرص ومن المنتظر أن يصدر القرار في اجتماع وزراء الخارجية في الأسبوع الأول من ديسمبر.
أما الجبهة السابعة فهي مع فرنسا حيث انتهز الرئيس أردوغان ما صرح به الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بنقد التطرف الإسلامي عقب مقتل مدرس فرنسي بعد عرضه لصور مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام حيث أهان أردوغان الرئيس الفرنسي وذكر أنه يحتاج الي فحص لقواه العقلية وبالتالي أصبحت تركيا بالنسبة لفرنسا دولة عليها تحفظات وبالطبع ستؤثر علي العلاقات بين الدولتين مستقبلاً وخاصة في المجال الاقتصادي وتركيا لديها من المشاكل الاقتصادية التي لا تتحمل أن تزيدها بهذا الموقف مع فرنسا…
أما الجبهة الثامنة فهي قيام تركيا بشراء منظومة S400 من روسيا الأمر الذي أثار حفيظة دول حلف شمال الاطلنطي وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية حيث أن الدستور الأمريكي يري فرض عقوبات ضد هذا الاجراء وهذا ما قرره الكونجرس الأمريكي مؤخراً بفرض عقوبات علي تركيا ولقد أجل الرئيس ترامب تنفيذ هذه العقوبات الي ما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية ..
أما الجبهة التاسعة وهي علي الصعيد الداخلي في تركيا فلقد جاءت استقالة صهر الرئيس التركي ووزير المالية والخزانة “بيرات البيرق” مؤشراً علي الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه تركيا حالياً ووصل سعر الليرة التركية الي أدني مستوي في تاريخها مع زيادة الأسعار والبطالة وكان تعليق الفاينانشيال تايمز البريطانية أن حجم الأزمة الاقتصادية في تركيا قد أدي إلي انهيار أسرة الرئيس رجب طيب أردوغان وأضافت الصحيفة أن الانهيار السياسي والعائلي للدكتاتور العثماني يؤكد التدهور الاقتصادي في تركيا.
أما الجبهة العاشرة التي يخوضها أردوغان في معركته مع منظمات حقوق الإنسان الدولية حيث جاء في تقرير المفوضية الأوروبية السنوي الصادر في السادس من أكتوبر 2020 أن حكومة أردوغان تعمل علي انتقاص مساحة الديموقراطية في البلاد وتم تدمير استقلال المحاكم التركية عن أي وقت مضي وأصبح القضاء التركي تابعاً للأهواء السياسية… وعلي المستوي العسكري تشهد القوات المسلحة التركية أضعف فترة في تاريخها بعد ما عزل أردوغان معظم القادة رفيعي المستوي حتي يحافظ علي نظام الرجل الواحد ويحكم قبضته علي الجيش وخاصة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو 2016 التي أعطت أردوغان الفرصة للتخلص من كل معارضيه علي مختلف المستويات وخاصة في الجيش حيث اعلن التقرير الأمريكي لحقوق الإنسان الذي صدر مؤخراً أن حكومة أردوغان طردت الآن 130 ألف موظف مدني واعتقلت نحو 80 ألف مواطن وأغلقت أكثر من 1500 منظمة غير حكومية.. لذلك أصبح ملف حقوق الإنسان في تركيا هو العقبة الرئيسية لانضمام تركيا الي الاتحاد الأوروبي… وهكذا فإن أردوغان يحارب اليوم علي عشر جبهات كل جبهة كفيلة بإسقاط النظام لذلك يتوقع الجميع سقوط أردوغان في الانتخابات القادمة لكي تنتهي فترة مظلمة من تاريخ تركيا.