تتوالى حكايات الولاد والأرض…

والدة الشهيد مصطفى يسرى عميرة : ظل ثلاث سنوات فى غيبوبة واطلقوا عليه الشهيد الحى

كتب محمد نبيل محمد :
من عمر الخمس سنوات والطفل مازال يتعلم الكلام يفاجىء والدته بكلامات غير متوقعة من مثله , فتجرى الام اليه مسرعة , ممسكة بقلبها بيد وبالاخرى تمررها على رأسه الصغير , وتسأله ان يعيد على مسامعها ما قاله , فينظر اليها الطفل وتطيل هى بدورها النظر الى وليدها علها تقرأ القادم من عمره وتفك طلاسمه , وجاهدة تحاول ان تستوعب كلمات طفلها التى فاقت حد ادراكها, فترسل بالنظرات تلاحق وليدها وتحدق به حتى كادت ان تحتضنه بأجفانها التى تشابكت فى طرفة عين طويلة لتحتفظ بصورة وليدها , ويرجع اليها البصر بما شعر به قلب الام ورفضه عقلها , وبحركة فجائية لا ارادية تجذب وليها لحضنها العميق ربما تشى أقاويل حركات الجسد بأنها ستبقيه فى أحضانها خشية تلك الهواجس التى أقتحمت خاطرها فى لحظة ثقيلة ومزعجة لاقصى مدى لقلب الام نحو وليدها , وهو فى مطمأن فى حضن أمه يكرر :” انا عايز اطلع طيار يا ماما وادافع عن البلد واموت علشانكوا , انا بحبكوا اوى يا ماما ” , ترقض الام سماع كلامات طفلها عن حلمه القادم والأوحد , وهى من نالت وحدها ايضا حظ تفسيره , يا لقسوة البصيرة عندما ترى القادم لأغلى الناس وفلذة الأكباد!
تحكى الأم البطلة :” كان وقتها مصطفى عنده خمس سنين , بس , خمس سنين ! وما يعرفش عن الاحلام غير انه يضحى بحياته علشان الناس اللى بيحبها وعلشان بلده, انا مش قادرة انسى من وقتها وانا بخاف عليه من ناحية ومن ناحية تانية فخورة بانى ام لبطل من صعره خايف على بلده وعايز يضحى بحياته علشانها , معقولة تكون ديه احلام ابنى اللى لسة طفل , ومعقولة يتكتب على الخوفد عليه من بدرى اوى كدة!”
تعود الام تتماسك وتتكىء على برواز يحفظ صورة بطلها وهو فى عمر حلمه ابن الخمس سنوات وتنتقل الى برواز أخر وتشير : “هنا مصطفى كان من اوائل الثانوية العامة جاب مجموع 98% ديه صورته اللى قدمها فى ملف الثانوية , فى مدرسة مصر الجديدة اللغات , المدرسة ديه هى المقر الانتخابى للرؤساء , وبعد كام سنة بقى اسمها مدرسة الشهيد مصطفى يسرى عميرة , شوفتوا كرم اكبر من كدة من ربنا لابنى , كان نفسه يقدم روحه فداء لبلده واهله من وهو طفل , اهو بقى اسمه على اشهر مدرسة اللى بينتخب فيها رؤساء مصر, الحمد لله , صابرة يا ربى”.
تصمت البطلة هنيهة , وتتنهد وهى تنتقل بنظراتها على جدار غرفة وليدها والذى يشبه النصب التذكارى الملىء بأسماء الشهداء , هكذا هو جدار الغرفة المزين بصور للشهيد تحكى بسلاسة مراحل عمره – القصير – بعضها يهدى البسمة الى الناظر اليها من جمال ابتسامات صاحبها , والأخريات تكسب الزائر خشوعا يسير تجاه الزهد فى الحياة التى لاقيمة لها الا عندما يقدمها صاحبها لأغلى الاشياء (مصر) , ياااه كم لهذه المفردة (مصر) من جلال يكتشفه الزائر فى اثناء تجوله بين بقية صور الشهيد التى تحمل تواريخ فى مجموعها تصل الى ثلاثة سنوات هى عمر ثان للبطل قضاها فى غيبوبة تامة .
تعود وتتماسك البطلة لتحكى عن البطل وهى تزهو ببطلها :” انا ام الشهيد مصطفى يسرى عميره من قوة العمليات الخاصة قطاع سلامه عبد الرؤوف دفعة 2010, كان نفسه يدخل الفنيه العسكرية أو الشرطة, وكان له نصيب فى كلية الشرطة , وكان متفوق فى دراسته , وكان محبوب من زملاؤه لانه كان متعاون جدا معاهم حتى اللى منهم واخد جزاء خميس وجمعه كان بيستنى معاه , كل دفهتخ بتحبه وتحترمه, وتخرج مصطفى دفعه 2010 وبعد التخرج والتحاقه بالأمن المركزى في فترة التدريب كان نفسه ينضم للعمليات الخاصة لانه كان عايز يشترك في عمليات تطهير بلدنا من الإرهابيين , وبالفعل التحق بالعمليات الخاصة في قطاع سلامه عبد الرؤوف, وكان فخور جدا بعمله , وكان بيترك بصمه طيبة فى كل مكان خدم فيه , وكان بيسافر مأموريات فى سيناء وبالذات العريش بجانب عمله فى قطاع سلامه عبد الرؤوف , حتى ثورة 30/6 كان دائما في القطاع كان بيرجع البيت كل فتره لانه كان بيحب عمله اوى , ابنى شارك زمايله فى فض اعتصام رابعة 14/8/2013 , وبالمناسبة لم يبلغنا بموعد الفض لحد ماعرفنا من الاعلام ولم نتمكن من الاطمئنان عليه , ابنى كانت خطوبته يوم 15/8/2013 ولما رجع عصر يوم 15 تانى يوم الفض كان بيحكى ويقول الرصاص حولنا زى العصافير من كل ناحية الارهابيين دول جابوا السلاح ده كله من فين ومن مين ؟! , وطبعا جكى فى اليوم ده عن استشاهد كتير من زمايله الضباط والمجندين , ورفض إتمام الخطوبة واكتفي بقراءه الفاتحة على أن يتم الزواج بعد شهرين بدون فرح احتراما لزمايله الشهداء.
حتى صباح يوم الجمعة 16/8/2013 نزل للقطاع مع إحساسه بأن هايحصل حاجه قبل صلاة الجمعة لما دخلت على صفحته لاقيته منزل على صفحته صوره الشهيد محمد جوده وجنبها برواز فاضى عليه شريط اسود وكتب مستنى دورى , قلبى اتقبض اوى , وما اعرفش ليه افتكرت كلامه وهو عنده خمس سنين , حاولت اطرد الفكرة من دماغى بس قلبى متوغوش ومش عايز يسكت , وجعنى اوى وعمال يجيب فى صور اصحابه الشهداء وافتكرتهم كلهم فى اليوم ده مش عارفه ليه , انما كنت خايفة من حاجة وقلقانة اوى”.
تستجمع البطلة انفاسها المحبوسة فى صدرها لتخرج دفعة واحدة مع لألىء درية داقئة تتدلى على كلثوميها ويبدو ان تلك القطرات من اللؤلؤ تعرف دربها التى شقته سابقتها على وجنتى تلك البطلة , وتقول :” اصعب حاجة على الام انها تدفن ابنها بس بلدنا مافيش حاجة تغلى عليها وكمان هى دية رغبة ابنى وحلمه الوحيد” وتعود لحكيها عن البطل :” مصطفى نزل بعد صلاة الجمعة وكان مفروض ينزلوا مدرعات الشرطة لتأمين قسم حلوان طبعا في اليوم ده كانت البلد فى حال تانى خالص , منهم لله الاخوان البعدة , وصمم مصطفى ينزل في سيارة شرطة مكشوفة وعلى طريق الأتوستراد عند المعصرة كانوا اخوان الشيطان عاملين كمين للشرطة فوق عمارة كاشقة للشارع كله , وبمجرد ظهور سيارة الشرطة ومصطفى فيها مع اربعة آخرين أطلقوا عليهم رصاص كثيف أصيب مصطفى بثلاث رصاصات فى الفك والبطن وقدمه , واستمر هو وزمايله فى التعامل مع الارهابيين الاندال حتى وصول المدرعات وقاموارجالة الشرطة بتصفيتهم , اصحاب مصطفى قالوا لى أن مصطفى فدى القطاع كله لأن لولا أنه سبق كان القناصة قضوا عليهم , وبعدها دخل مصطفى في غيبوبة لانقطاع الأكسجين عن المخ مدة 20 دقيقة , واستمر تلات سنوات وهو لا يشعر الا بالالم وكان صاحب اصعب اصابه على مستوى عمليات الداخلية من أحداث يناير من بين اكتر من 18000اصابه , ابنى كان فى حالة شلل رباعى وتلف فى المخ , ما كنتش عارفه ادعى له بأيه والا ايه , كنت ببص للسما كتير اوى واسجد لربى كتير اوى , كان لسانى مش مطاوعنى ادعى لابنى بالراحة من شدة الالم اللى كان بيشعر به, انا ام , والام بتحس بوجع ابنها , زيه بالظيط , وكنت ابص لابنى طوال ثلاث سنوات اقوله فى سرى كان يعنى لازم تختار الحلم ده يا مصطفى , ربنا يابنى يكتب لك الجنة , ومن كتر زيارة امهات الشهداء من زمايل مصطفى لابنى فى المستشفى , أطلقت عليه امهات الشهداء الشهيد الحى, وانا أطلقوا عليا ام الصابرين , والله وربى عالم انا صبرت اد ايه ومؤمنة بقضاء الله وفخورة بأبنى وراسى مرفوعة مش بتنزل غير فى سجودى لله وحده , مصطفى من صغر سنه بيتكلم عن الشهادة سبحان الله من عمر خمسه سنوات بيقول لما اكبر هاكون ضابط واركب الطياره احارب واموت شهيد , واخر كلمه كتبها مصطفى (كان نفسي اموت شهيد) , يا قلبى , كنت لما اتصل عليه يقولى انت تاخدى الرقم القياسى فى عدد الرنات , أقوله اقفل عليا , ولما تكون فاضى كلمنى, يقولى عشان تعرفى انى لسه عايش يعنى حاضر يا ست الكل , مصطفى كان خلق يمشى على الارض , أخوه الأصغر ضابط شرطة أمن مركزى , ووالده لواء جيش يعنى ذرية بعضها من بعض , فخورة بك يا مصطفى وربنا حقق لك حلمك انك تضحى بروحك علشان بلدك , والحمد لله ولا إله إلا الله وحده لا شريك له”.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.