ما أن تم الإعلان عن اتفاق سلام بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل، حتى قامت قيامة البعض، ممن لا يريدون للصراع العربي الإسرائيلي أن ينتهي، حتى تنعم المنطقة بسلام يعم أرجائها، ويُعيد الحق لأصحابه الفلسطينيين، الذين دخلت مباحثاتهم مع تل أبيب طريقاً مسدوداً، أرادت الإمارات، بإعلان اتفاقها الأخير، أن يكون بمثابة الحجر الذي يُحرك المياه في البحيرة الراكدة.. وبدلاً من تفهم الحالة وفهم مراميها، سارعت حركة حماس بوصفالاتفاق بالـ (خطير)، ثم أدانت الحركة كل أشكال التطبيع مع إسرائيل، واعتبرته طعنة في خاصرة القضية الفلسطينية!.. وكذلك شجبت حركة الجهاد الإسلامي بشدة هذا الاتفاق، واعتبرت التطبيع (استسلاماً وخنوعاً ولن يغير من حقائق الصراع، بل سيجعل الاحتلال أكثر إرهاباً)، وقال المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية، نبيل أبو ردينة، إن اتفاق الإمارات وإسرائيل هو خيانة للقدس وللمسجد الأقصى وللقضية الفلسطينية، وأن القيادة الفلسطينية تدعو الأشقاء العرب لعدم الرضوخ والاستسلام للإدارة الأمريكية، وعدم السير على خطى الإمارات.. مع أن المنطق يقول إن كل شيئ يُعاير بمعياره، وإن هذا الاتفاق لابد أن يكون (مرتبطاً بما ستقوم به إسرائيل، فإن تعاملت معه كحافز لإنهاء الاحتلال وتلبية حق الشعب الفلسطيني في الحرية والدولة المستقلة القابلة للحياة وعاصمتها القدس المحتلة، على خطوط الرابع من يونيو 1967، ستتقدم المنطقة نحو تحقيق السلام العادل، لكن إن لم تقم إسرائيل بذلك ستعمق الصراع الذي سينفجر تهديداً لأمن المنطقة برمتها)، كما قال وزير الخارجية الأردني.
لقد سبق وأعطت خطة ترامب للسلام، التي كُشف عنها في يناير الماضي، الضوء الأخضر لإسرائيل لضم المستوطنات في غور الأردن والضفة الغربية، والتي تعد غير قانونية بموجب القانون الدولي، ورفض الفلسطينيون الخطة آنذاك واعتبروها منحازة، كما رفضها العرب، وسط مخاوف من التصعيد في المنطقة، ليأتي الاتفاق الأخير ليكون بارقة أمل في أن يساهم تعليق إسرائيل ضم المستوطنات بموجب اتفاق التطبيع مع الإمارات في إتاحة (فرصة للزعماء الإسرائيليين والفلسطينيين للانخراط مجدّداً في مفاوضات جادّة تُحقّق حلّ الدولتين)، كما أعرب عن ذلك الأمين العام للأمم المتحدة، خاصة وأن هذا الاتفاق إنجاز مهم في السياسة الخارجية بالنسبة لترامب، في وقت يستعد لحملة انتخابية صعبة قبيل الاقتراع الرئاسي في نوفمبر.. وهو نفس ما تراه عواصم أخرى في العالم، من أنه ليس هناك بديل عن المحادثات المباشرة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والتي هي الطريق الوحيد للوصول إلى حل الدولتين والسلام الدائم، ومن بينها ما أكده وزير الخارجية البريطاني،أن (هذه خطوة تاريخية تشهد تطبيع العلاقات بين صديقين كبيرين للمملكة المتحدة، وكذلك تعليق خطط الضم).. ولم يؤيد الرفض الفلسطيني للاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، إلا من يتخذون من القضية الفلسطينية، شعارات يرفعونها ليل نهار، وهم يبيعونها في سوق النخاسة في كل لحظة، وأقصد بذلك إيران التي نشرت وكالتهاللأنباء، إن الاتفاق يعتبر (مُخزياً)!، مع أنها متورطة بشكل مباشر، في نزاعات سوريا والعراق، وتؤيد المتمردين الحوثيين باليمن، وجماعات مسلحة مثل حزب الله في لبنان، والجهاد الإسلامي في فلسطين.. وكذلك ذهب أردوغان تركيا، الذي هدد بسحب سفير بلاده من أبو ظبي، مع أنه أكبر مُطبع مع إسرائيل، وأنه ليس بالشخص الغريب على إسرائيل، فقد زارها عام 2005 على رأس وفد كبير من الوزراء وكبار الموظفين ورجال الأعمال، والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، آنذاك، أرئيل شارون.. وقتها قال له شارون (مرحباً بك في القدس، عاصمة إسرائيل)، دون أن يُنكر عليه قوله، بل إنه وضع إكليلاً من الزهور على قبر تيودر هيرتزل، مؤسس الصهيونية، والأب الروحي للدولة اليهودية!.
إن القول المعهود عن الفلسطينيين بأنهم (لا يفوتون أي فرصة لتفويت الفرصة) هي للأسف، أكثر من حقيقة.. فلدى كل من الإسرائيليين والفلسطينيين مواقف تفاوضية قائمة منذ مدة طويلة، وعليهم إدراك أن التسوية ضرورية للمضي قدماً، ومن المُحتّم أن يدعم كل طرف جوانب من هذه الرؤية ويعارض جوانب أخرى منها،وصولاًلحلول وسط يجب على الطرفين دراستها، للمضي قدماً والسعي نحو مستقبل أفضل، يستفيد منه كليهما والآخرين في المنطقة، فهل اتبعوا منطق العقل؟.. التاريخ يقول لا..في عام 1965، سافر الرئيس التونسي، آنذاك، الحبيب بورقيبة إلى القاهرة، واجتمع بالرئيس جمال عبدالناصر ليعلمه بأنه سيتجه إلى فلسطين، وسيطلب من شعبها القبول بقرار التقسيم، فوافقه عبدالناصر بقوة، لكن ردود الفعل العربية المتشنجة على دعوة بورقيبة، جعلت عبد الناصر يتراجع عن موقفه، خشية أن يخسر الرأي العام الذي كان يرى فيه الفارس الذي سيحرر كامل الأراضي الفلسطينية من البحر إلى النهر.. وكانت النتيجة أن حتى الأراضي التي زارها بورقيبة في مارس 1965 احتلتها إسرائيل في يونيو 1967، وبدلاًمن الحديث عن إقامة دولتين وفق قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، أصبح الطموح العربي الحصول على جزء من الأراضي المحتلة عام 1967.. ووقع الرئيس الراحل أنور السادات على اتفاقية كامب ديفيد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، في 17 سبتمبر 1978،بعد 12 يوماً من المفاوضات برعاية الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وشملت إطار السلام في الشرق الأوسط الذي يتناول الأراضي الفلسطينية.. وقد نقل أحمد أبوالغيط، الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، في مذكراته عن المفاوضات لحفظ حقوق الفلسطينيين خلال الإعداد للاتفاقية، عن الدكتور أسامة الباز، أن مصر كانت تستهدف إشراك الفلسطينيين في المفاوضات مع إسرائيل، كما أنها كانت مصممة على ضرورة أن يكون مفهوم التسوية واضحاً منذ البداية، ومع بدء المرحلة الانتقالية ومدتها أيضاً طبقاً لرؤية مصر خمسة أعوام، لتنتهي بإنشاء دولة فلسطينية يكون لها ارتباط ما متفق عليه مع الأردن، مع التأكيد على حسن علاقات الجوار بين الدولتين.. وأكد الجانب المصري آنذاك على ضرورة سيطرة الفلسطينيين أو الدول العربية على القدس الشرقية، لتبقى المدينة موحدة وتدار من خلال مجلس أعلى، طبقاً لمقترحات وتفكير السادات فى الموضوع.. وكانت النتيجة، أن تم تخوين السادات وقاطعه العرب، ورأى فيه الفلسطينيون عدواً لقضيتهم، وضاعت فرصة أخرى لحل القضية وفق معطيات تلك المرحلة، بينما استطاعت مصر استعادة كل أراضيها المحتلة عام 1967.. وهكذا دواليك.
■■ وبعد..
ففي السياسة، وخاصة في القضايا المصيرية، لا تفيد المواربة بقدر الوضوح المطلوب.. خلال عقدين من الزمن، شهدت المنطقة العربية زلازل سياسية أدت إلى تحييد دور أغلب دولها الكبرى والمؤثرة، وتحولت القضية الفلسطينية إلى مرتبة ثانوية، في ظل اتساع دائرة الصراع الذي تديره قوى إقليمية ذات أطماع معلنة في المنطقة، وبخاصة تركيا وإيران، وانشغلت الشعوب بالتجاذبات السياسية والأيديولوجية وبأزماتها الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة إفرازات ما سمي بثورات الربيع العربي، التي كان من بين أهدافها تعميم الفوضى الخلاقة والمزيد من تعويم القضية الفلسطينية، مقابل ترجيح كفة الإسلام السياسي في الوصول إلى الحكم.. استغل الإسرائيليون ذلك في التخطيط لضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك أجزاء مهمة من الضفة الغربية المحتلة، بينها غور الأردن، بهدف تشكيل أرخبيل من جزر منفصلة مقسّمة، تحيطها إسرائيل بشكل كامل، وغير متصلة مع العالم الخارجي، وهو ما يعني القضاء على حكم إقامة الدولة الفلسطينية، ورغم أن الإمارات أبدت مراراً دعماً دؤوباً للسلام في الشرق الأوسط للحد من الصراع، فإن خطة الضم بالنسبة إليها خط أحمر، في وقت لم يعد أمام العرب، وخاصة محور الاعتدال، إلا العمل على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، مستغلاً اندفاع إسرائيل لتطبيع علاقاتها معه.. هذا الطرح تحدث عنه سفير دولة الإمارات بالولايات المتحدة،يوسف العتيبة، في مقاله المنشور على صفحات (يديعوت أحرونوت) والموجه بالأساس للنخبة السياسية والرأي العام الإسرائيليين، عندما قال (حتى وقت قريب، تحدث القادة الإسرائيليون بحماس عن تطبيع العلاقات مع الإمارات والدول العربية الأخرى.. لكن هذا الحديث يتعارض مع خطة الضم الإسرائيلية، إذ أن إعلان الضم يُشكل استيلاء غير قانوني على الأراضي الفلسطينية.. إنه يتحدى الإجماع العربي ـبل والدولي ـ فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في تقرير المصير).. فهل نفهم ونتأنى قبل أن نُعارض ونرفض؟.