انتبه البعض، هذه الأيام، لأفكار حروب الجيل الرابع والخامس، التي تنتهجها القوى العظمى كاستراتيجية لإسقاط الحكومات والدول والنظم، في العالم، دون الدخول في حروب تقليدية، المعروفة في بدايتها، بحروب الجيل الأول، وهي الحروب التي كانت تمارس، منذ بدء الخليقة، باستخدام السيوف والسهام والعجلات الحربية، اعتماداً على حشد كبير من المقاتلين الأشداء، وهي المعارك المخلدة على جدران المعابد الفرعونية، وفيها يقود الملك الفرعوني جيشه، من فوق عجلته الحربية، حتى طرد الأعداء من على حدود البلاد. وتلا ذلك حروب الإمبراطورية الرومانية، والإسكندر الأكبر، التي انتهجت ذات الأسلوب والمفهوم.
ومع ظهور البارود واختراع البندقية والمدافع، بدأت حروب الجيل الثاني المعتمدة على قوة النيران الجديدة، باستخدام البارود، وكانت أهمهم معارك نابليون بونابرت، القائمة على نفس فكر الحشود القديمة، مضاف إليهم جنود المشاة بالبنادق، ومن خلفهم المدفعية. تطور الأمر والفكر لحروب الجيل الثالث، مع بداية الحرب العالمية الأولى، بظهور الدبابات والمدرعات والطائرات المقاتلة، إضافة لظهور المدمرات والبوارج والغواصات، ليصبح الشكل الجديد، للمعارك ما يطلق عليها معارك الأسلحة المشتركة الحديثة، التي تشارك فيها القوات البرية والبحرية والجوية والدفاع الجوي والقوات الخاصة، وهو ما طاله التطوير والابتكار، عبر السنوات، باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية، واستخدام القنبلة الذرية ضد اليابان، في ناجازاكي وهيروشيما، أصبح العالم، في إطار حرب الجيل الثالث، يقسم الحروب إلى حروب تقليدية وحروب نووية، حتى بداية حرب فيتنام، في نوفمبر 1955، التي حاربت فيها الولايات المتحدة الأمريكية لمدة 9 سنوات ونصف تقريباً، وانتهت الحرب بانتصار فيتنام الشمالية، وانسحاب القوات الأمريكية، بعد سقوط سايجون في 30 أبريل 1975، تكبدت الولايات المتحدة الأمريكية، في هذه الحرب، أكبر خسائر بشرية، في تاريخها، إذ فقدت حوالي 58 ألف جندي قتيل، فضلاً عما يزيد عن 1600 جندي في عداد المفقودين. وأمام هذه الخسائر، بدأ البنتاجون التفكير في بدائل للتدخل العسكري في مختلف دول العالم، متجنباً الخسائر بين صفوف جنوده، وضباطه، فظهر أسلوب جديد يعرف باسم “الحرب بالوكالة”.
ومع ظهور مشكلة أفغانستان، الناتجة عن الانقلاب العسكري على الملك ظهر شاه، وصعود النظام الشيوعي بها، الذي وقع على معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1979، تتيح للأخير، التدخل عسكرياً في أفغانستان، لقتال المجاهدين. وهنا شعرت الولايات المتحدة الأمريكية بخطورة من اقتراب السوفييت من بترول الخليج، فعقدت العزم على طردهم من أفغانستان دون استخدام الجندي الأمريكي، في تطبيق أول لمفهوم “الحرب بالوكالة”، وذلك بدعم حركة المجاهدين بالأموال، ومدهم بالسلاح، حتى نجحوا في قتال السوفييت وطردوهم من أفغانستان، بعد عشر سنوات. وفجأة وجدت الولايات المتحدة أن عدد كبير من أولئك “المجاهدين” قد انضموا لتنظيم القاعدة، ونفذوا هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، على برجي التجارة العالمي في نيويورك، بقيادة أسامة بن لادن، أحد أهم العناصر الذين دعمتهم أمريكا في حربه ضد السوفييت، سواء بالسلاح أو الأموال التي وصلت إلى 5 مليار دولار أمريكي.
هنا تأكد للولايات المتحدة عدم جدوى أسلوب “الحرب بالوكالة”، فشرعت في التفكير في أساليب جديدة، حتى ظهر على السطح مصطلح “حروب الجيل الرابع”، القائم على هدم الدولة من الداخل، دون استخدام القوة العسكرية، المباشرة، وبعد هدم الدولة، يتم فرض الإرادة الخارجية، وإملاء الشروط عليها، وهو ما كانت تحققه القوات العسكرية، بخسائر أكبر. وبالرجوع للتعريفات الدولية، يتضح أن حروب الجيل الرابع، هو نوع من الحروب، التي يكون المشارك فيها ليس دولة، بل جهة فاعلة، غير حكومية، وتضيف المراجع العلمية العسكرية، أنها حرب معقدة، طويلة الأمد، لامركزية التخطيط، تعتمد على الهجوم المباشر على ثقافة الخصم، وأساساها الحرب النفسية، من خلال وسائل الإعلام الحديثة، وشبكة الإنترنت، باستخدام كافة الضغوط المتاحة؛ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. تتصف تلك الحروب بغياب التسلسل الهرمي، وتتخذ من الإرهاب وتكتيكات التخريب وفي بعض الأحيان حرب العصابات أحد أهم أدواتها.
وبينما تؤكد معظم المراجع العسكرية أن “حروب الجيل الرابع” تعتمد، بالأساس على خلق تناقضات ما بين الدولة والمجتمع، باستغلال كافة الوسائل، لأحداث الخلل في العلاقة، فإن “حروب الجيل الخامس” تعتمد في استراتيجيتها على احتلال العقول لا الأرض، وبعد احتلال العقول سيتكفل المحتل بالباقي، فهو يستخدم العنف غير المسلح، مستغلًا جماعات عقائدية مسلحة، وعصابات التهريب المنظمة، والتنظيمات الصغيرة المدربة، من أجل صنع حروب داخلية، تتنوع ما بين اقتصادية وسياسية واجتماعية للدولة المستهدفة، وذلك لاستنزافها عن طريق مواجهتها لصراعات داخلية، بالتوازي مع مواجهة التهديدات الخارجية العنيفة.
الخلاصة أن يتم اسقاط الدولة من الداخل، وليس بقوات عسكرية، حيث أن ما يتم إنفاقه على هذه النوعية من الحروب الجديدة لا يساوي ثمن عدة طائرات مقاتلة حديثة. وعادة ما يتم التخطيط لهذه الحرب مسبقاً، وتدريب العناصر الموكل إليها إشعال الجهة الداخلية، في أماكن خارج الدولة نفسها، وعادة ما يستغل، في ذلك، المنظمات الأهلية تحت شعار مزيد من الديمقراطية للبلد. وهكذا يتم قيادة الجموع الحاشدة من أفراد الشعب لإسقاط النظام القائم دون استخدام القوة العسكرية. هذه، ببساطة، وبإيجاز شديد، أهداف حروب الجيل الرابع والخامس، وعليه أهيب بكل الشعوب توخي الحذر من التعامل مع الشائعات باعتبارها أخبار، ضمن خطة الحرب النفسية والإرهابية التي تحاك ضدها، كي لا تقع فريسة حروب الجيل الرابع والخامس