تصاعد الخلافات بين واشنطن وبكين

خبراء يؤكدون أنها ستنتهي بمواجهة عسكرية حتمية بينهما

  • تبادل اتهامات وطرد دبلوماسيين واعتقال مهاجرين بتهمة التجسس.. وتدهور سريع في العلاقات الثنائية بين العملاقين

  • الأزمة العالمية واتساع الفجوة بين اقتصاد البلدين لصالح الصين يفسر لجوء الولايات المتحدة لأساليب الدبلوماسية الخشنة مع المارد الأصفر

  • محللون : حرب عالمية ثالثة وشيكة لإيجاد نظام عالمي جديد يكرس الهيمنة الأمريكية علي العالم__

تحليل يكتبه : عبدالخالق صبحي
للسياسة كواليس مثل كواليس المسرح، تجري فيها كل الترتيبات اللازمة للعمل في سرية ومن وراء جدران سميكة بعيدا عن أعين المتطفلين، قبل أن يزاح الستار ويظهر الممثلون للجمهور.
والنظارة (جمهور المسرح) لا يعنيهم كثيرا ما يجري في هذه الكواليس بقدر ما يعنيهم متابعة قصة العمل وأداء الممثلين فوق الخشبة.
وكواليس السياسة تشبه إلي حد كبير غرف خلع ملابس اللاعبين، بكل ما فيها من جلبة وارتباك وتوتر وقلق بين اللاعبين، وفي الدقائق الأخيرة قبل بدء المباراة يلقي المدرب آخر ما في جعبته من تعليمات للاعبيه قبل الخروج إلي أرض الملعب، وعندما تبدأ المباراة، وقتها فقط تظهر مهارات اللاعبين وحنكة المدرب.
والمباراة التي نحن بصددها ليست بين فريقين متنافسين علي كأس أو بطولة عادية، بل بين عملاقين من عمالقة العالم، بين دولتين كبيرتين بحجم الولايات المتحدة الأمريكية والصين، الصراع بينهما جائزته الاستحواذ علي القدر الأكبر من المنافع والمصالح.
بدأت المباراة بين الولايات المتحدة والصين منذ خمسينيات القرن العشرين عندما وقعت واشنطن اتفاقية دفاع مشترك مع جزيرة تايوان التي تعتبرها الصين جزءا منها، وسيطر التوتر علي علاقات البلدين حتي حصلت انفراجة بينهما في أعقاب ما عرف وقتها بدبلوماسية تنس الطاولة.
ويشير هذا المصطلح إلى بداية العلاقات بين واشنطن وبكين بعد عقود من التوتر والشد الجذب، وهي البداية التي تم من خلالها طي صفحة العداء بين البلدين الكبيرين وبدء صفحة جديدة من التعاون والتبادل التجاري المثمر، والتي استؤنفت أثناء منافسة رياضية بين لاعبي تنس طاولة من البلدين في أوائل سبعينات القرن الماضي، ضمن فعاليات بطولة العالم لتنس الطاولة لعام 1971 في مدينة ناجويا باليابان حيث تم لقاء اللاعبين ـ الأمريكي جلين كوان، والصيني وزوهانج زيدونج، قبل أن تتحول اللعبة إلي لعبة أوليمبية في عام 1988.
اعتبر البلدان الحدث أساس رجوع العلاقات الأمريكية ـ الصينية، ومهدت المباراة الطريق لزيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى بكين في عام 1972.
وكانت نظرة الولايات المتحدة إلى جمهورية الصين الشعبية قبل هذا الحدث نظرة عدائية بسبب الاختلاف الأيديولوجي والفكري، ولتعارض المصالح بينهما، فهما قطبا الفكر الرأسمالي والاشتراكي، إضافة إلي انحياز كل منها إلي طرفي الصراع بين الكوريتين عام 1950، فالصين انحازت إلي كوريا الشمالية الاشتراكية، وواشنطن دعمت في المقابل كوريا الجنوبية، ما ترتب عليه حالة من العداء غير المباشر فرضت قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية.
وبعد المباراة التاريخية قرر البلدان الاستفادة من مميزات الانفتاح علي بعضهما البعض ونسيان الماضي. فالصين انفتحت أمام منتجاتها أسواق الولايات المتحدة الأمريكية بعدما حظيت بمعاملة تفضيلية من جانب واشنطن وأصبحت الشريك التجاري الأولي بالرعاية، والولايات المتحدة رأت في الصين قوة ضغط مفيدة في مفاوضات السلام مع فيتنام الشمالية، ومن وقتها بنيت الكثير من جسور الصداقة.
عودة التوتر من جديد
إلا أن أجواء التوتر بين الولايات المتحدة والصين عادت من جديد علي خشبة الأحداث العالمية خلال الشهور القليلة الماضية بشكل أصبح ينذر بتصاعد الأمور إلي مواجهة عسكرية بينهما، إلي الدرجة التي دفعت ببعض المراقبين والمحللين السياسيين لاعتبار هذه التصرفات مقدمة لحرب بين البلدين قد تتحول إلي حرب عالمية ثالثة.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية بدأت حالة من التناوش الدبلوماسي بين بكين وواشنطن بتبادل الاتهامات وتبادل غلق القنصليات، تماما مثل لاعبين يتنافسان علي مائدة تنس طاولة (بنج بونج) كل لاعب يتحدي منافسه بإغلاق قنصلية فيرد الآخر بإغلاق إحدي قنصليات الطرف الآخر، هذا ما ظهر علي مسرح الأحداث، أما عن الكواليس وما يجري في المطبخ السياسي، وما يدور في أذهان صناع القرار من الساسة في البلدين الكبيرين فيدخل في بابا الأسرار العليا لهما، وعلي العالم انتظار ما تسفر عنه هذه المواجهة الخطيرة.
مماحكات سياسية
واللافت في الأزمة الصينية ـ الأمريكية أن المماحكات السياسية إن جاز التعبيرـ وأعني بها بدايات الاستفزازـ تبدأ كلها من طرف الولايات المتحدة الأمريكية في صورة اتهامات بدون دليل قاطع علي أن بكين هي المسئولة عن تفشي وباء كورونا المستجد في العالم، تلتها عمليات اعتقال لصينيين مقيمين في الولايات المتحدة ـ ربما حاصلين علي جنسيتها ـ باتهامات خطيرة من نوعية التجسس لحساب الصين، ثم مطالبة واشنطن لبكين بدفع تعويضات بأثر رجعي مقابل سرقة الملكية الفكرية.
فقد أعلنت السلطات الأمريكية اعترافات رجل سنغافوري مقيم في الولايات المتحدة بالتجسس لصالح الصين، ووجه الاتهام لجون وي يو باستغلال عمله في الاستشارات السياسية في أمريكا كواجهة لجمع المعلومات لصالح الاستخبارات الصينية.
ووفقا لبيان صادر عن وزارة العدل الأمريكية يقول أن جون وي يو، المعروف أيضاً باسم ديكسون يو، اعترف يوم الجمعة الماضي في محكمة اتحادية بالعمل كعميل غير شرعي للحكومة الصينية خلال الفترة من 2015-2019.
وقد وجهت إليه التهم في وقت سابق باستغلال عمله في الاستشارات السياسية في البلاد كواجهة لجمع معلومات قيِّمة غير متاحة للعامة لصالح الاستخبارات الصينية.
وفي إقراره بالذنب، اعترف بالبحث عن أمريكيين لديهم تصاريح أمنية عالية المستوى وإقناعهم بكتابة تقارير لعملاء وهميين.
وكان يو قد اعتقل أثناء قدومه بالطائرة إلى الولايات المتحدة في العام 2019.
المحاسبة بأثر رجعي
جاء بعد هذا احتجاز باحثة صينية بتهمة إخفاء صلاتها بالجيش الصيني!
فماذا عنها وهي الآن رهن الاعتقال ؟
كشف مسئولون أمريكيون أن إسم الباحثة هو جوان تانج، وتبلغ من العمر 37 عاماً، كانت من بين أربعة صينيين اتهموا في وقت سابق من هذا الأسبوع بالاحتيال لدى حصولهم على التأشيرة وذلك بسبب كذبهم المزعوم بشأن خدمتهم في جيش التحرير الشعبي الصيني.
وكانت جوان آخر الأشخاص الأربعة يتم اعتقاله في كاليفورنيا، بعد أن اتهمت الولايات المتحدة القنصلية الصينية في سان فرانسيسكو بإيوائها.
ولم يتضح على الفور كيف تم اعتقالها.
تقارير إن عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي وجدوا صوراً لجوان تانج في الزي العسكري الرسمي وراجعوا مقالات في الصين تحدد انتماءها للجيش.
وحسب التقارير نفسه، فإن جامعة كاليفورنيا دافيس قالت إن جوان تركت عملها كباحثة زائرة في دائرة علاج الأورام بالإشعاع في يونيو الماضي.
تبادل الاتهامات
اتهم مسئولون أمريكيون الصين بالمسئولية عن انتشار وباء كوفيد-19 في العالم. وجاءت الاتهامات الأكثر تحديدا علي لسان الرئيس ترامب الذي زعم، دون أن يقدم دليلاً، أن الفيروس مصدره أحد المختبرات الصينية في مدينة ووهان.
وجاء الرد الصيني علي لسان متحدث باسم وزارة الخارجية في مارس الماضي يؤكد أن الجيش الأمريكي قد يكون هو من جلب فيروس كورونا إلى ووهان.
إجراءات أمريكية متلاحقة
قامت الولايات المتحدة بإغلاق القنصلية الصينية في مدينة هيوستن بولاية تكساس.
وقال وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إن القرار اتخذ لأن الصين “تسرق” ممتلكات الفكرية!
وردَّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانج وينبين بالقول إن الخطوة الأمريكية قائمة على “خليط من الأكاذيب المعادية للصين”.
وكان لابد من رد صيني حيث أمرت في وقت سابق بإغلاق القنصلية الأمريكية في مدينة شينجدو الصينية.
وبعد انتهاء مهلة الـ 72 ساعة الممنوحة للدبلوماسيين الصينيين لمغادرة مبنى القنصلية في هيوستن الأسبوع الماضي، شاهد الإعلاميون رجالاً يبدو أنهم مسئولون أمريكيون يقتحمون أحد الأبواب للدخول إلى المبنى.، بينما اتخذ موظفون بزيهم الرسمي من مكتب الأمن الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية مواقعهم لحراسة المدخل.
مزيد من الاتهامات الأمريكية للصين
اتهم ترامب الصين منذ فترة طويلة باستخدام ممارسات تجارية غير عادلة وبسرقة الممتلكات الفكرية، وترد الصين علي هذا الاتهام بأن الولايات المتحدة تحاول كبح صعودها كقوة اقتصادية عالمية.
وفرضت واشنطن عقوبات على سياسيين صينيين تؤكد أنهم مسئولون عن ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان بحق أقلية الإيجور المسلمة في شنجيانج. وتواجه الصين اتهامات بممارسة عمليات احتجاز جماعي والاضطهاد الديني والتعقيم الإجباري (حرمان من القدرة على الإنجاب) للإيجور والأقليات الأخرى، وربما يكون هذا الاتهام هو الوحيد الذي يعلمه القاصي والداني، وليس الأمريكيون وحدهم.
وتنفي بكين الاتهامات وتتهم الولايات المتحدة بـ “التدخل السافر” في شئونها الداخلية.
وتعيب الولايات المتحدة علي الصين فرضها قانونا أمنيا جديدا مثيرا للجدل في هونج كونج.
كما أن الولايات المتحدة والصين تشتبكان في حرب تتعلق بالتعريفات الجمركية على السلع منذ العام 2018.
يعتبر قيام الصين بفرض قانون أمني شامل في هونج كونج مصدراً آخر للتوتر في العلاقات مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، التي كانت تدير المنطقة حتى العام 1997.
ورداً على ذلك، قامت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي بإلغاء الوضع التجاري التفضيلي لهونج كونج، والذي كان يسمح لها بتجنب التعريفات الجمركية المفروضة على السلع الصينية من قبل الولايات المتحدة.
وترى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة القانون الأمني الجديد تهديداً للحريات في هونج كونج التي تتمتع بها بموجب اتفاق بين الصين والمملكة المتحدة وقع في العام 1984- قبل عودة السيادة إلى الصين.
وأثارت المملكة المتحدة غضب الصين من خلال تحديد مسار للحصول على الجنسية البريطانية لحوالي ثلاثة ملايين مواطن من هونج كونج.
وردت الصين بالتهديد بوقف الاعتراف بنوع من جوازات السفر البريطانية التي يحملها الكثير من أولئك الذين يعيشون في هونج كونج.
هذا جانب من المناوشات الدبلوماسية والتجارية والقانونية بين الولايات المتحدة والصين، كل هذه الاتهامات المتبادلة والإجراءات الدبلوماسية المشددة من جانب الطرفين تشير إلي احتدام المواجهة بينهما وإلي تصاعد وتيرة التوتر في العلاقات الثنائية التي شهدت لعقود حالة من التمازج والتصالح، كانت الولايات المتحدة تغض الطرف فيها عن كل التجاوزات الصينية التي تتعلق بحقوق الملكية الفكرية بدليل وجود حوالي مليون ونصف المليون صيني فوق الأراضي الأمريكية ما بين حاصلين علي الجنسية ورجال أعمال ودبلوماسيين ودارسين وأصحاب مشروعات ومتاجر، وبدليل تنامي حجم التبادل التجاري بين البلدين إلي مستوي غير مسبوق، واستيراد الولايات المتحدة للسلع الصينية بما يتجاوز مليارات الدولارات، وتفضيل الشركات الأمريكية الكبري للاستثمار في الصين، ونقل الكثيرمن الصناعات الأمريكية إلي الصين جريا وراء الأيدي العاملة الرخيصة.
جانب من كواليس الأزمة
مراكز دراسات أمريكية وعالمية أكدت في تقارير مطولة وتحليلات موثقة بأرقام وإحصاءات ثابتة أن العالم يتجه إلى أزمة اقتصادية حادة لم يسبق لها مثيل في بداية الألفية الثالثة، وتوقعوا أن تكون أكثر حدة من أزمة 2008 المالية، يليها كساد عالمي مع ارتفاع كبير في الأسعار، وأنها ستنعكس علي الولايات المتحدة الأمريكية في صورة انكماش اقتصادي تمر به بالفعل وقد يؤدي إلي انهيار اقتصادي بسبب الصراع الاقتصادي مع الصين، وأن الرئيس ترامب لن يسمح بحدوث هذا الانهيار رغم أن نسبة النمو في الاقتصاد الأمريكي لا تزيد بحال عن 2%، مقارنة بمعدلات النمو في الصين التي لا تقل عن 6%، وللخروج من هذه الأزمة توقع المراقبون أن تفتعل الولايات المتحدة أزمة ـ الأمر الذي توجد الكثير من الشواهد عليه مما سبق ذكره ـ وأن هذه الحرب ستتطور إلي حرب عالمية ثالثة تنتهي بجلوس الأمريكيين والصينيين علي طاولة مفاوضات واحدة ـ وهو الأمر الذي ترفضه الصين في الوقت الحالي ـ نظرا للفجوة الكبيرة بين الاقتصاد الصيني ونظيره الأمريكي باعتبارها التاجر الأول في العالم في مجال التكنولوجيا.
ودلل المحللون علي وجهة نظرهم بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي صرح غير مرة بأن الصين سرقت تريليونات الدولارات من الولايات المتحدة من خلال سرقة حقوق الملكية الفكرية، ولهذا السبب تطالب الصين بتعويضات عما لحق بها من خسائر، ومن هنا لابد للرئيس الأمريكي من تنفيذ سيناريو الحرب المفتعلة مع الصين، فالموضوع ليس قصة ضرائب أو تعريفات جمركية أو حقوق إنسان ولا قمع حريات ولا انتهاكات ولكنه موضوع يتعلق بتمكين الولايات المتحدة من الهيمنة علي الاقتصاد العالمي والتحكم في التقنية في إطار نظام عالمي جديد تظهر ملامحه بعد اكتمال سيناريو الحرب.
ربما تؤكد الأرقام بعضا من الحقائق المرتبطة بهذا السيناريو، فالعالم بالفعل مفلس وليس علي حافة الإفلاس، حيث أن إجمالي الناتج العالمي يبلغ حوالي 85 تريليون دولار، وديون العالم تشكل ثلاثة أضعاف هذا الرقم، يخص الولايات المتحدة منها عجزا سنويا يقدر بتريليون دولار، حيث الناتج الإجمالي يصل إلي 3.5 تريليون دولار، فيما النفقات تتجاوز حاجز الـ 4.5 تريليون دولار وهو ما يفرض علي صانع القرار الأمريكي البحث عن موارد لتقليل هذا العجز، والحل من كواليس صناعة القرار الأمريكي، ووفقا لتحليلات مراقبين أمريكيين ودوليين لن يتوفر إلا من خلال افتعال حرب عالمية تعيد صياغة العالم، وإعادة ترتيب الأوراق واللاعبين الدوليين وفق المصالح الأمريكية.
وإذا كانت الأحداث علي خشبة المسرح السياسي العالمي تشير إلي بوادر هذه المواجهة الوشيكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين والتي بدأت بدبلوماسية خشنة تبادلت فيها الدولتان طرد الدبلوماسيين، فمن غير المستبعد مضي واشنطن في طريقها إلي آخر السيناريو الذي قد يكون تم تسريبه من كواليس السياسة الأمريكية.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.