محمد فيض خالد يكتب : بين الدّرسِ والألعابِ “٣”

يالنشّوتي بعد أن مرّت واقعة السُّبورة بسلامٍ ، فُتحت معها شهيّتي ، وانتعشت روحي ، وانفك عني هم ثقيل ، وتنفست الصّعداء بعد طولِ انتظار ، وقلق استبدّ بي منذ أن لاحت مخايله في عيونِ الرّفاق ، الآن اصبحَ لي مكانتي في هذا الزّخم المُرعب ، يُحسب للغريبِ حسابه ، وتُعاد حسابات القوم فيهِ ألف مرةٍ ومرة ، بعد أن نفضَ عن كاهلهِ غبار الترك والاهمال ، اقف الآن على قدمٍ ثابتةٍ، تتحسّس قدمي المرتعشة موضعا صلبا لا يميد ، بعد أن كانت منذ قليلٍ رخوة.
مرّ يومي الأول بسلامٍ ، وفي الطّريقِ اذيع النبأ السّار بين رفاقي ، فرح من فرح واسرّها في نفسه من شاء ، عدت احمل لأمي بشرياتِ يوما ثقيلا ، مرّ كأفضلِ ما يكون ، باركتني وتمنّت لي النّجاح كعادتها .
ولكن كعادتها الأيام اللَّعوب ، تأبى إلا أن تنغّص على المرءِ حياته ، فالنّصر الذي احرزته ولم تبرد حرارة مشاعره الصّاخبة بعد ، ما كان ليمرّ بسلامٍ دون تبكيت أو تنغيص ، اصبح الحِمل ثقيلا فوق كاهلي ، بل ازداد تعقيدا ، إذ سُلِّطت عليّ الأضواء أكثر من اللازم ، رأيت ذلك في إشارات الرِّفاق كبارا وصغارا في ساحةِ الطّابورِ ، وكلمة واحدة اسمعها بعد طول ِ غمغمةٍ : هو دا .. أيوه.
اصبحت على ما يبدو من جملةِ المشاهير وأنا لا اعلم ، لم يكذِّب الاستاذ خبرا ، حين عقد النّية وبيّت العزم ؛ أن يهرول مُسرِّعا ليخبر ” اسحق افندي ” الناظر ، وجملة من الأفندية المدرسين ، طلب منهم القدوم على عجلٍ ، كي يشاهدوا التلميذ المعجزة ، النّابغ الصّغير الذي يخط أحرف اسمه كافضلِ ما يكون ، وبالفعلِ حضر الناظر بهيئتهِ المعروفة ، يهتزّ أمامه كرشه الثقيل ، في حلتهِ الزّرقاء المميزة ، ورابطة عنقهِ بلونها العنابي ، وشعره الثلجي الغزير ، ووجهه البشوش الذي توارى خلف زجاج نظارتهِ الكبيرة ، علا صوته يرجّ الصالة وهو يقول : فين يا سيدي العيل دا فين هو ..؟
وما إن سمعت صوته ونبرته الحادة المعروفة ، حتى انقبض قلبي ، وتحجّر حلقي ، وتصلّب ريقي ، وزاد اضطرابي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت ، على الفورِ طلب مني الاستاذ الدّاعي في حماسٍ ؛ أن اخرج أمام السُّبورةِ كي يبدأ بي الاستعراض ، شعرت وكأنّ الاستاذ يريد أن يكون صاحب السّبق، تماما كما يفعل مكتشفي النجوم ولاعبي الكرة ، توالت نظراته البراقة ، وتمددت ابتسامته العريضة ، وزادت حركته السريعة ، ويده الحانية التي يمررها قوي رأسي برفقٍ ، وهو يُردد : شاطر يا بني .. شاطر .
امسكني من يدي واعطاني قطعةً كبيرة من الطباشيرِ، وعينيه يشع منهما بريق غريب ، وحالة من البِشرِ تقاسمها بيني وبين السُّبورةِ ، وضيوفه ممن امتلأ الفصل بهم ، حتى عمي ” أبو ناصر” الفراش جاء على عجلٍ ، يمسك في يدهِ ممسحتهِ تقطر ماءً ، وقد وضع طرف جِلبابهِ الصّعيدي الواسع في فتحتها الجانبية ، شعرت ساعتها وكأني أُلقي بي وحيدا ، اسبح في بحيرةٍ والناس من حولي يتابعون في تسلي ، وولكنّها متابعة صامتة لا كلام فيها ، بلا تشجيعٍ أو حماس ، أتى القوم ليشاهدوا ( الفلتة) الذي استطاع مقارعة أقرانه ، وسلك الطريق قبل أوانهِ_ هكذا اعتقدوا _ تجمدت أصابعي حول الطباشير ، مددت يدي اتحسس بها الأخرى ، جاهدت طويلا كي اتخلص من هذه الصّدمة التي لم تخطر على بالٍ ، مضى الوقت بطيئا لكني لم احسبه ، كُلّ ما هنالك أن عيني المرتجفة، تحوم في الأجواءِ المشحونة ، ثم تعود فتغرق السُّبورة ، لترتد سريعا نحو استاذي ، الذي اوشك أن يتبدد صبره ، ويخيب ظنه فيّ ، اقترب مني بعد انحناءة أبويةٍ لطيفة ، وقال هامسا : متخفش .. الناظر مش هيعمل لك حاجة… دا جاي فرحان بيك يلا اكتب اسمك تاني ..
تزحزح حملي الثّقيل قليلا ، وإن ظلّ الجمهور على ترقبهِ ، وتعطشه لهذا العرض الفريد ينتظر على نارٍ ما اخطّ ، علت بعضهم الدّهشة ، والبعض رماني بنظرةٍ باردة خالية من أثر الحياة ، والبعض راهن بصوتٍ مسموع على فشل المحاولة .
انشغلت بأمرِ الجمهور ، لكن أصحاب المكان من رفاقِ الفصل كان لهم رأي آخر من العرض ، انتابت البعض حالة من الضّيقِ ، رأيتها وبعضهم يلتهم أظافر يده ، ويُلقي بقصاصتها وأوساخها أسفل مقعدهِ، شعرت في قرارةِ نفسي أني على مشارف ِ فصل جديد من العداوة والصّراع ، اصبحت كمن يدخل عِش الدبابير بقدمهِ، عاودت النّظر تجاه الاستاذ الذي اكله الصبر ، وعلاه النّدم على تسرّعهِ، شعرت في عينيهِ وكأنّه يلعن حظه العاثر ساعة راهن عليّ
عادت نظراته تتوزع من جديدٍ بيني وبين الخضورِ، ولكنّها نظرات مخنوقة تضمر الأسى ، في الحقيقة اشفقت على الرجلِ ، بدى لي وكأني اتخلى عنه وقت حاجتهِ ،وهو المُتحمس الوحيد لي في المكانِ ، المشكلة في أن الاستاذ أخذ الموضوع بجديةٍ أزيد من اللازمِ ، فحمله فوق ما يحتمل ، فجعله قضية مصيرية ، وتلك العقدة ، ومدعاة للارتباكِ الذي تقاسمناه سويا ، هو من ناحيتهِ لا يريد لنفسهِ أن يخرج بخسارةٍ ، حتى وإن بدى الموضوع تافه لمن يراه ، خاصة بعد أن نُصِب السّيرك وحضر المتفرجون ، وأنا كوني لم اعهد مثل هذا المشهد من قبلٍ، فغاية ما اعرف ، تلك المنافسات التي كانت تجري بيني وبين بعض الأقرانِ ، من أبناءِ جيلي ، وحالة التحدي في رسمِ بعض الحروف والأرقام ، كان تراب الأرض الناعم لوحنا، وأحيان جدران بيوتنا الطينية ، نخط عليها ببقايا الفحم ورماد النار ، هذا أقصى ما كان ..
مرّت اللحظات ثقال ، والمشاهد فيها سريعة تمر أمامي ، اتذكر فيها لهفتي وشوقي للمدرسةِ ، وانتظاري أبناء قريتنا فوق الجِسرِ حين عودتهم ، يحملون حقائبهم فوق ظهورهم تلوح منها أوراق الكتب والدفاتر ، تراصّت تلك الذكريات أمامي ، تلهب حماستي في وداعةٍ، تتنزّل على قلبي المضطرب بردا وسلاما ، وتفيض عليه من منحها ثباتا وأمنا .
لأبدأ في خطّ اسمي كأبدع ما يكون ، لوّح الاستاذ بيدهِ مُحيّيا ، ثم مرّر يده فوق شعري الغزير ، واعتدل بوجههِ المشرق ناحية ” اسحق أفندي” وبقية المدرسين ، يغرقهم بنظراتِ الفخر والتحدي ، تنوّعت عندها عبارات الثناء ، بين حارةٍ ومتوسطة ، وبين نظرات رضا طويلة ، وكأنّ أصحابها أرادوا حفظ تفاصيل وجه هذا الشقي الجديد، صرخ الاستاذ في الرّفاق الذين تكوّموا فوق مقاعدهم : صفقوا يا تمبل منك ليه ..
دوى التصفيق ، وعادت ذكرى الأمس ثانية ، عادت عيون الرّفاق تفيض الأسى والكُره، وتقودني لمصيرٍ مجهول في هذا المحيط ، الذي بدأ نجمي يسطع فيهِ، تلميذا نجيبا يحصد مبكرا حب استاذه وشهرة في المدرسةِ ، امسك ” اسحق أفندي ” طرف نظارته ، ومرّر منديله القماش الكبير حول رقبتهِ سريعا ، وقال وهو يهم منصرفا : شاطر خلي بالك منه يا استاذ محمد .. دا عيل خطه حلو .. عرفت لاحقا؛ من معاينتي أن ” اسحق أفندي ” الوحيد الذي يتمتّع بخطٍ منمّق جميل ، عندما يمسك بقلمهِ الأبانوس الأسود ، الذي اتخذّ له دواة حبرٍ كبيرة ، استقرت فوق مكتبهِ المتواضع ، تنبأ الرجل بفراستهِ بأنّي سأملك خطّا جميلا وقد كان ، انشرح صدر الاستاذ ، عدتُ ثانيةً لمقعدي، بدأ الوضع في التغّييرِ بعد أن اخذ منحى مغاير ، بعد أن التفّ الزُّملاء من حولي ، وبدأت صفحة جديدة من الصداقةِ والتّعارف…
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.