محمد فيض خالد يكتب : بين الدرس والألعاب ( 2 )

هذا يومي الأول في المدرسةِ، وقفت بين الزّملاءِ في طابورِ الصّباحِ، بعد تزاحمٍ شديد من منتسبي بقية الصّفوفِ ، جميعهم ممن سبقونا بأعوامٍ ، كانت عبارات السخرية ، ونظرات الاستهزاء تنهال علينا من كُلّ جانبٍ ، وجملة واحدة سمجةٍ لا تتغيّر ، يرددونها يلفهم ضحك بارد : سنة أولى.. سنة أولى .
لحظات ثقيلة مرّت عليّ ، وأنا اتفرّس الوجوه الكبيرة من حولي ، وجوه بدأت شواربها في الظهور مبكرا بصورةٍ فجة، وفي لجةٍ من الأجسادِ المتلاصقة في عرقها ، ومع الغبارِ الكثيف المُتصاعد في الأفقِ من حولنا ، والذي امتلأبهِ كُلّ شبرٍ في المدرسةِ ، تعالى صراخ اسحق أفندي ناظر المدرسة ، يأمر لادخالنا على الفورِ الفصول ، فحوش المدرسة لا يسمح بهذا التكدّس ، وهذا الصّخب المروّع، لم اكن قد اهتديت بعد لطقوسِ اليوم الأول للمدرسةِ ، تلك الطقوس التي توارثها التلاميذ الجُدد جيلا بعد جيل، لا يخلفونها أبدا ، فهي بطاقة تعريفية لابدّ وأن تمرّ من أمامك ، وأن تمرّ بها أنت ، اعتقد أنّها قد سقطت سهوا من حكاياتِ أبناءِ قريتنا، ممن سبقونا ، والذين تحلّقنا من حولهم ، نستمع إلى قصصهم وطرائفهم التي يستذكرونها في ليالي الصيف ، قبل أن تعرف أقدامنا طريقها لهذا المعترك.
سرتُ على مهلٍ بين الأرجلِ المُتسارعة ، التي تتزاحم وتتقاتل بل وتتعارك أحيانا ، لا اعرف لهذا من سببٍ ، تُرى على أي شيءٍ يتهافت الرِّفاق ، ماذا ينتظرهم في الداخلِ ..؟!
نظرت من حولي بعد أن انشغلت بأسئلتي ، فوجدتني وحيدا ، مشيت حتى وقفت أمام فصلنا ، حدّقت بعيني في اليافطةِ السّوداءِ المربعة ، كانت قطعة من الخشبِ كُتب عليها بالطباشيرِ الأبيض وبشكلٍ منمق عريض ( فصل ١/١)، لازلت اتذكرها ، دلفت الفصل اطالع ما يجري أمامي ، لاتزال المعارك قائمة بين بعض التلاميذ ، ومجموعة منهم كانت قد استقرت في أماكنها في سلامٍ، يباركون نباهتهم وسبقهم الذي مكّنهم من اقتناصِ هذا الموقع المميز ، مررت حتى منتهى المقاعد لم اجد لي مكانا ، إلا مقعدا صغيرا متهالكا في نهايةِ الفصلِ.
بدأ التلاميذ في عُجالةٍ حفر علامات مميزة ، ورسومات أشبه بالوشمِ فوقَ أسطح الخشب ، عرفت فيما عرفت، أنّهم أرادوا تمييز مقاعدهم حتى لا تبدّل لاحقا ، اخرج كُلّ واحدٍ منهم موسا من جيبهِ ، احضره خصيصا لهذهِ اللّحظة ، لم أجد بدّ إلا الجلوس في مكاني ، والرِّضا على مضضٍ بما تبقى لي من معارك الضِّباع ، جلست كباقي الغُرباء أمثالي في سكونٍ تام،ننظر من حولنا بعد أن استحوذَ أبناء المكان على ما يميزهم ، لا تدري بعد إلى أيّ مصيرٍ نُقاد ، ومع أي بدايةٍ مشؤومةٍ نبدأ عامنا في هذا العالم المفتوح.
تُرِكَ المجال رحبا أمام أبناءِ القرية من زملاءِ الفصل ، الذين كانوا قد بدأوا مبكرا وصلات تحرّشهم واستفزازهم غير المُبرّرِ ، لقد كانوا من الحِنكةِ بأن تصبح هكذا بدايتنا ، وفيها فرض للأمرِ الواقعِ بالقوةِ ، وتلك نوازع تكمن في النفس البشرية ومبادئ تؤصِل لقانونِ الغاب ، التي يأكُل القوي فيها الضعيف ، لم استبق الأحداث بعد ، حافظت قدر المُستطاع على رباطةِ جأشي ، لم انجرّ خلف هذا الاستعراض المُبكرِ ، كان شغلي الشاغل أن اجد من بين أبناءِ قريتنا ، من يصلح لأن اتحد معه ، فنكوّن حائط صدّ، وقوة ضاربة تضارب هذا التغوّل ، وتردع طيش أولئك الذين بالغوا في عدوانهم .
لم يستعيد أصدقائي عافيتهم بعد، فقد كانوا مثلي قليلي الحيلة ، يترنحون تحت تأثير الصّدمةِ ، فضّلوا الجنوح إلى السِّلمِ ، ولعل هذه من بوادر الحكمة ومما يحمدوا عليه، اتساق واصح مع المنطقِ وتحكيم العقل ، وتصديقا للمقولةِ المأثورة : ” ربّما تستدعيك الشّجاعة أن تجّبن ساعة ” ، استمرّ الصّراخ طويلا لا ينقطع ، فقد انهمك _ على ما يبدو _ اسحق أفندي الناظر ، وبقية المدرسين في تنظيمِ جداول الحصص ، وتوزيعها على المدرسين والتأكّد من حُضورِ الجُددِ منهم ، وهذا ما اعطى الفرصة كاملة لتدبّ الفوضى في الفصلِ ، ويجد كُلّ متشاكسٍ فرصته ، فما كان للقومِ أن يعبأوا بضجيج المبتدئين أمثالنا ، يأتي على فترات ٍ أحد الاساتذة ، ويُضرب بعصاه باب الفصل ، وهو يردد سريعا وبصوتٍ خشن : سكوت .. هووس .. هو إحنا في سوق .
عندها ينقطع الصّوت ، وتسكن الحركة قليلا ، وإن بقيت النُّفوس تُضمر التمرّد ، وبعد أن ينصرف يعود الصوت أعلى مما كان ، وتلك طبيعة الصّغار الذين ألِفوا الفوضى ، ولم يعوّدوا أنفسهم ضوابط مثل هذه البيئاتِ الجديدة .
لازمت مكاني لم انجرِف لفوضاهم التي كانت قد ابتلعت أغلب الزملاء ، وإن كنت أجد في نفسي الشوق؛ لأن اغامر مثلهم ، واخوض هذه التجارب ، والجّ في بحرِ الفوضى ، في الواقعِ لم اتعوّد هذا الرّكود ، فأنا منذ وعيت اعشق الانطلاق ، اكسر دون ترددٍ كُلّ قيدٍ يحول بيني وبين أن اسيح كعصافيرِ السّماءِ ، التي تلاحقها عيني تفترش صفحة الأفق الأزرق ، تتزاحم فوق الأشجار ، أو تغازل سنابل القمح في الحقولِ .
مرّ الوقت ثقيلا ، أثقل مما تصوّرت، أصبحَ همي أن أجد لنفسي فكاكا من هذه القيود التي اثقلتني ، واجلستني كالعاجز في مكاني ، ولكن هل إلى ذلك من سبيلٍ ..؟!
دقائق وعاد إلينا أحد الاساتذة ، وقف على بابِ الفصل ، قلّب نظره فينا ، تحرّك ببطئ بين المقاعدِ ، وهو يتفرّس الوجوه ، ثم عاد فتوسّط المكان ، جرّ كرسيه الخيزران جلس عليه ، ثم قال : كل واحد يقول اسمه الثلاثي وهو منين.
انتهينا جميعا من ذكر اسمائنا ، اغلق الباب ثم امسك بعصاه يمررها فوق كفهِ برفقٍ ، وبابتسامةٍ لطيفةٍ ، قال مُتحمسا : مين يعرف يكتب اسمه ثلاثي .؟
هدأ المكان بأهلهِ ، وتحوّل الصّمت إلى وحشةٍ ، جال الاستاذ بطرفهِ بين المقاعد ، التي تحوّل من عليها إلى أموتٍ لا تسمع لهم ركزا ، وهل ينطق الموتى ..؟! سبحان مغيّر الأحوال ، فمنذ دقائق اعتلى الرِّفاق مقاعدهم ، وتشابكت أيديهم في استعراض ٍ للقوةِ ، تراهم الآن وقد تاهوا كتيهِ بني إسرائيل.
دق قلبي بسرعةٍ غير معهودةٍ ، تعرّق جبيني ، مرّت أمامي آلاف الصور سريعا سريعا ، وأنا ارسم حروف اسمي ببقايا الفحمِ فوق جدرانِ بيوت شارعنا ، وهاتف يهتف من أعماقي ، تستحثني وخزاته أن اقف : قم أيّها الجبان ، هيا أيّها اللّكع.. ماذا تنتظر.؟!
ما اصعب التردد، وما اثقل الجبن حين يتملّك قلوب الصغار ، فيكتم أنفاسها ، ويشلّ حركتها وهي تحبو نحو النّورِ .
وبتثاقلٍ شديد ، وكأنّ ذراعي قد شدّ إلى أكياسٍ من الرّملِ ، قلت : أنا .
ساد الصمت ، رمتني عيون الجميع وهي تفيض باستغربٍ ودهشة ، وكأن أصحابها هالهم ما رأوْا ، فسارعوا إلى استنكاره على الفورِ ، فلا يحق لغيرِ أبناء البلد أن يكون له وجود ، أو أن يعلو صوته في هذا المكان .
تغافلت عن كمِ لعيون المصوّبة نحوي ، تركتهم لذهولهم ولم ابالي ، وكأن القوم قالوا في أنفسهم : من أين لهذا الغريب كُلّ هذه الجرأة، كيف عرف أحرفه ونحن في أولى أيامِ الطلب ، مدّ الاستاذ يده بقطعةٍ من الطباشيرِ ، وما إن لامست يدي ، حتى شعرت بهزةٍ غريبة ، وقشعريرة اصابتني بارتباكٍ لم اعهده، لم اتصوّر قبل هذة اللحظة أن اقف هذا الموقف ، تقدّمت رويدا رويدا من السبورةِ ، تسلّل من داخلي سكون عجيب ، اسلمني لراحةٍ واطمئنان لأن اتمالك أعصابي ، تغافلت عن همسات الزملاء ، واسئلتهم التي تتقادم من حولي ، وكأنّها صاعدة من باطنِ جُبٍّ : من يكون هذا الفتى ..؟!
بدت قطعة الخشب السوداء المعلقة قوي الحائطِ ، بحرا زاخرا متلاطم الأمواج ، وعبثا حاولت احكام قبضتي حول قطعةِ الطباشير ، لكنّها كانت تنزلق مني في عِنادٍ ، وكأنمّا تأبى تكبّرا وغطرسة أن تنقاد لصغيرٍ مثلي .
ادرك الاستاذ بنجابتهِ ما بدى من اضطرابي ، اقترب مني ، وقال بصوتٍ حاني : على مهلك .. طايل السبورة ولا تقف على الكرسي .؟
كُلّ ما اذكره أنني هززت رأسي ، ثم شرعت اخط بيدي أحرف اسمي حرفا حرفا في هوادةٍ ، كأحسنِ ما يكون ، وعلى الفورِ صرخَ الاستاذ في الموتى الجالسين أمامه ، وقد فغروا أقواههم : صفقوا له .. صفقوا له.
اشتعل الفصل عندها بالتصفيقِ الحاد ، شعرت معه بقليلٍ من الثقةِ والارتياح ، وداعب رأسي الزّهو ، فانساب بردا وسلاما ، اعتبرت أن هذه الواقعة هي أولى بدايات اثبات الذات ، وخطوة تفتح أمامي طريقا للأمل ِ ، وتبدّد من قلبي رهبة المكان وأوهامه .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.