” بين الدّرسِ والألعابِ ( 1 ) ” قصة قصيرة يكتبها محمد فيض خالد

سِرنا للحظاتِ من الكوبري ، لتطلّ علينا المدرسة بأسوارها الصّفراء المميّزة ، ونوافذها الخشبية العالية المشرّعة، ما إن وصلنا حتى انشغلَ الرِّفاقُ _ ممن سبقونا أعوامٍ _بأمورهم الخاصّة، سأل كبيرهم بلهفةٍ: فين عربية عمي إبراهيم القط بتاع السندوتشات ؟
استوقفني الاسم قليلا ، قد يكون لغرابتهِ ، فأنا لم آلف مثل هذهِ الألقاب في قريتنا ، أو ربّما هي غريزة الفضول ، التي ساقتني خلفَ الكلامِ، فلابدّ لحديثِ عهدٍ مثلي ، أن يتعوّد مفردات المكان ، ويتقن شفرته الجديدة ، انصرفت سريعا بذهني فيما حولي ، اُطالِع المبنى الجاثم من أمامي ، اقلِب فيهِ النّظر بتمعنٍ ولهفة، كان كُلّ شيءٍ فيه لا يزال في غفوتهِ ، مُنذ أن خيّم عليهِ ليل البارحة ، وسط سكون البيوت التي احتضنته من كُلّ مكانٍ.
غير أن رجلا في عقدهِ الخامس ، مليح التقاسيم ، سمح الوجه ، قد انشغل في عملهِ ، ازال عنه جِلبابهِ الصعيدي المميز ، ومشى تاحيةِ الحوض الإسمنتي الكبير ، الذي اتخذ حيزا بجوارِ السّور ، علته ( حنفية) مياه ذات ماسورةٍ كبيرة مُلفتة للنظرِ، امسكَ بيدهِ ( الجردل ) وبدأ في اغراق ممرات الفصول ، ثم سكبَ قليلا من الصًابون والمطهر فوق الماءِ، سارع في حكّ الأرضية ، وبعد ثوانٍ معدودة اعتلى الدّرج الأمامي ، المؤدّي من حوش المدرسة للمبنى كومةً من الرغاوي البيضاء ، انهمك الرّجل في عمله بسرعةٍ لفتت انتباهي .
أمّا أبناء البلد فانقسموا إلى مجموعاتٍ صغيرة ، تحرّكت واحدة منها جهة شجرة التوت العتيقة التي بعدت عن المدرسةِ بضعة أمتارٍ، سمعنا بثمرها الأحمر اللذيذ قبل مجيئنا بأشهرٍ طوال ، تغزّل من سبقنا إليها ، بطعمهِ الحلو وحجمه الكبير ، اسال لعابنا جميعا ، فشجرات التوت في قريتنا لا تُشبهها ، أمّا المجموعة الثانية ، فمنذ أن وصلنا وهي مهمومة بالبحثِ عن عربةِ إبراهيم القط بائع السندوشتات الأشهر ، أمّا المجموعة الأخيرة فقد انضم عناصرها ، لمجموعاتِ الصبيان ممن تصارعوا في قذف شجرة ( النّبق) التي افترشت المكان بالحصى والحجارةِ، لكنّ الغريب واللافَتَ للانتباهِ حقا ، أن الصّغار لديهم عادة ألفناها مما ألِفنا فيما بعد، ما إن يشتدّ الضرب ويتساقط الثمر ، وتملأ الأفرع بالحصى ، حتى يصرخ أحدهم وهو يمسك رأسه ، بصوتٍ عال: انبطحت .. انبطحت .. انبطحت .
عندها تكفّ البقية عن قذفِ حصاها، ُيسارع عندها صاحبنا كالثعلبِ في مكرٍ وخبث ، فيلتقط الثّمر المتساقط في سرعةٍ غريبة وسط ذهول رفاقه.
اغراني شيطاني ذات مرةٍ ، ودفعني دفعا في هذا الطريق الوعر، من بابِ المغامرة وإثبات الذات وكسر رتابة المألوف، انضممت لأصحابِ ( النبقة) كان أبناء قريتنا قد اعتادوا الحيلة، واتقنوا معها السّرعة في التقاط الثمّر قبل أن تتساقط عليهم الحجارة العالقة بين الفروعِ ، اتقنوا تلك الأساليب بل وبرعوا فيها ، يصرخ الواحد منهم : انبطحت .. انبطحت
ثم يضع يده فوق رأسه ، يتوقف عندها الرّمي ، فيقفز في ليونةٍ ومهارة ، يلتقط الثّمر وحده ،ثم تتعالى ضحكاته السّاخرة من البقيةِ ، لا استطيع كتمان سعادتي ساعتئذٍ ، وأنا أرى ما وصلَ إليهِ أبناء قريتي في هذا المكان المجهول من تقدّمٍ، قُلتُ لنفسي : وماذا ينقصني عن هؤلاءِ لأجرِّب حظي ، وافعل ما يفعلوا .
وما إن امتلأت السّماء من فوقي بالحصى والأحجارِ المتطايرة من كُلّ مكانٍ ، حتى تقدمت لاجمع الثّمر ، وأنا اتصايح صيحاتهم المعروفة ، على ما يبدو أني نسيت أن التصايح وحده لا يكفي ، إذا لم تكن له رشاقة تسعفه ، لم يتوقف الرُّماة عن رمياتهم ، تريثت قليلا ثم اندفعت ، خوفا من سخريتهم ، ما إن اقتربت من الثمّرِ حتى اغرقتني الأحجار العالقة بين الأفرعِ من فوقي ، لتُدمي جسدي وتصيبني بكدماتٍ في رأسي ، ظللت اتحسسها كلّما مررت بجانبِ الشجرة لمدةٍ طويلة .
انتهى أخيرا عمي أبو ناصر الفراش من عملهِ ، تناول بيدهِ خشية كبيرة ، بعد أن لفّ من حولها ( خيشة ) مرّرها بقوةٍ فوق َ الأرضيةِ ، التي تآكل بلاطها وتفتت إلى قطعٍ متجاورة ، تحوّلت أرضية الحوش إلى بركٍ صغيرة تعلوها رغاوي الصابون ، توالت تحذيرات الرجل وتعليماته الصّارمة : إياك حد يدخل الحوش .. يا ولاد المركوب هاقطع رجله .
كان بعض أبناءِ البيوت القريبة من المدرسةِ ، قد اعتلوا السّور بالفعلِ، وبدأت وصلات المكايدة في الرّجلِ بل وتحديه ، لكنّه كان من الحكمةِ بأن يتركهم وشأنهم، على ما يبدو أنّه تعوّد مثل هذا السلوك وألفه كُلّ عامٍ.
وبعد قليلٍ نزلوا محاولين حشد أكبر عددٍ من التلاميذ ؛ لفتح باب الحوش بالقوةِ ، كان الباب قد اُحكم غلقه بسلسلةٍ كبيرة ، وعلى الرُّغم من تهالك ألواحه ، إلا أنّه استطاع الصّمود في وجه المقتحمين ، حتى مجئ إسحق أفندي ناظر المدرسة ، وهو رجل عجوز بدين ، يرتدي بذلة فضفاضة ، فوق عينيهِ استقرت نظارة طبية كبيرة الحجم ، ذات زجاجٍ غامق ، وأنف كبير رست فوقه نظارته ، ورغم بدانته وشعره الأبيض الذي يُشبه الثلج ، غير أنّه قوي البينة كشابٍ في الثلاثين ، موفور الصّحة ، جهوري الصوت، وقف قريبا من الحشود التي التحمت بالبابِ ، وصاحَ كالأسد الهصور : أنت يا ولد منك له يا قليل الرباية .. ارجع يا جبان.
انفض التجمهر ، وتفرّق المتآمرون وولوا الأدبار ، في بدايةِ التحاقي بالمدرسةِ ، كُنت اشد رهبة للرجلِ ، أهابه واتحاشى عصاه الخيزران الرفيعة الهوجاء عندما يطوحها في الهواءِ بلا تركيز ، والتي كانت تحصد أرجل التلاميذ لسببٍ ودون سبب ، امر من أمامهِ ترتعد فرائصي ، لكني في الأخير استجمع قواي ، واطير كالريح حتى لا تتعثر عينيه فيّ، والتي تجوب المكان كعينِ النّسرِ ، في الداخلِ والخارج فلا تُفلِت منها أحدًا ، فهي تبحث عن طرائدها بلا هوادةٍ.
لم يكن الرّجل بالسوّءِ ولا بالصورةِ التي رسمها وروّج لها منتقديه ، ممن سبقونا لهذه الرِّحابِ، حين قالوا لنا : حاسب من خرزانه سحاق افندي الناظر .. دي بتاكل اللحم أكل .
بل كان الرّجل في منتهى الشفقة مع ابنائهِ الطلاب، غاية ما هنالك أنّه لا يقبل بالاستهتارِ ، أو الخروج على النظام ، أو كسر اللّوائح في المدرسةِ عندها تثور ثائرة وتعمل عصاه.
وخارج المدرسة امتلأ الفضاء على اتساعهِ بالتلاميذ من مختلفِ الأعمارِ والأجناس ، هذا يومي الأول ، فعيني لا تكفّ عن رصد ِتحركات التلاميذ ، وملاحقة افعالهم ، التقط بأذني أسماء البعض منهم فاحفظ شكله ، لابدّ أن اعرف ما يدور من حولي ، ولعلّ معرفة الأسماء وحفظ الأشكال هي البوابة الرئيسية ، التي يلج منها ناشئ مثلي.
بعد دقائقٍ كان الغبار قد بدأ يتصاعد بكثافةٍ ؛ ليملأ المكان ويتطاير داخل المدرسةِ،تعفّرت الوجوه ، واتسخت الملابس الجديدة التي اُعِدّت لهذا اليوم ، معاركٌ هنا وهناك ، ومباريات كرم قدمٍ صاخبة على مَقربةٍ من السّورِ، لكنّها لم تُلعب كما تعوّدنا بكرةٍ قدم ٍ، بل هي رأس كبير من ( اللّفت) يركلها اللاعبون فيما بينهم في نشوةٍ عارمة .
صرخ إسحق أفندي وهو يشاهد الفوضى من أعلى الدّرج الأمامي للمدرسةِ، قال محتدا : افتح الباب للعيال دي تدخل بلاش خوته ووجع راس .
تزاحم التلاميذ أمام البابِ يدفعونه ، وما أن فتحه الفراش ، حتى ساحوا في الحوش الصغير في جلبةٍ ، امتلأت بها أركان المكان ، سارع عندها الفراشين بعد تكليف حضرة الناظر ؛ بتوزيعِ التّراب وكُناسة الفصول فوق الطّينِ، لحظات وتعلّق عمي أبو ناصر الفراش في الحبلِ الطّويلِ لجرسِ المدرسةِ، النّحاسي الضّخم الذي تدلى فوقَ المدخلِ، شدّ بقوةٍ الحبل ليهتزّ الجرس عِدة مراتٍ ؛ احدث صلصةً عالية جدا ، لتبدأ على دقاتهِ وقائعَ طابور الصبّاح لأولِ يومٍ لي بين جنباتِ المدرسةِ.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.