خطوة قاتلة تنم عن دكتاتورية تشي بأن الرجل البالغ من العمر 78 عاماً، لا يزال متمسكاً برئاسة (حركة النهضة) الإخوانية في تونس خلال المرحلة المقبلة، رغم أن رجلاً بسنه لن يكون قادراً على تحمل مسؤولية إدارة الحركة ورئاسة البرلمان، علاوة على أن اللوائح الداخلية تفرض عليه تسليم القيادة.. أما القرار، فهو إعلان راشد الغنوشي حل المكتب التنفيذي لحركة النهضة، والذي يعتبر أعلى هيئة تنفيذية فيها، وهو قرار لم يكن أبداً اعتباطياًولا مفاجئاً، كما يعتقد البعض، وإنما طبخه الغنوشي على نار هادئة.. وبهذا الحل، تتصاعد نيران الصراعات الداخلية بالحركة، مؤذنة بصفحة جديدة من الخلافات والانشقاقات التي لم تهدأ وتيرتها منذ أشهر، منذ بدء استقالة بعض أعضاء الحركة على خلفية تنامي ملفات الفساد المالي المرتبطة بعائلة الغنوشي، وخاصة ابنه معاذ وصهره رفيق عبدالسلام.
يتحدث مراقبون عن خلاف داخل الحركة نفسها حول سياسات الغنوشي وإمكانية تمديد فترة رئاسته لها، إذ ينص قانونها الداخلي على أن يتسلم رئيسها منصبه لدورتين فقط، وهو يتولىرئاسة الحزب منذ عام 1991، وتنتهي ولايته العام الحالي.. ويرى هؤلاء أن (الغنوشي يعتبر نفسه الحاكم الوحيد والماسك بقبضة الحركة التي يترأسها لسنوات طوال، أي أنه يتعامل معها على أنها ملكية عائلية وليست حزباً)، فزعيم إخوان تونس لن يترك أبداً مقاليد الحركة لشخص من خارج عائلته، وهذا ما يفسر ما ذهب إليه كثيرون من أنه يتأهب لتسليم مقاليد النفوذ إلى نجلهمُعاذ،مع أن الحركة الإخوانية تعاني منذ فترة طويلة من اهتراء تنظيمي، فضلاً عن تراجع شعبيتها بسبب المحصلة الهزيلة لحكمها منذ سنوات، وأيضاً جراء انفراد الغنوشي بالقرار داخلها، وإقصاء قيادات منها شكلت خطراَ على عرش زعيمها.. فمن أين جاء هذا الرجل الداهية؟
اسمه الحقيقي راشد الخريجي..ولد في 22 يونيو 1941، في قرية حامة قابس، أو الحامة،كما هو شائع في الجنوب التونسي، درس المرحلة الابتدائية في بلدته، ثم انتقل إلى بلدة مثيلبة حيث نال الشهادة الأهلية المتوسطة، ومن ثم درس في المدرسة الخالدونية في العاصمة، وبعد ثلاث سنوات حصل على الثانوية العامة من المدرسة التابعة لجامعة الزيتونة.. عمل في بداية حياته معلماً في مدينة قفصة حتى سنة 1964، وبعدها سافر إلى دمشق ليدرس الفلسفة، حيث حصل على إجازة في الفلسفة سنة 1968، وفي دمشق تسنى له قراءة النتاجات الفكرية للإخوان المسلمين، وتحديداً ما كتبه سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان حول الحاكمية والدولة الإسلامية، وبعد إتمام دراسته في دمشق، سافر الغنوشي للدراسة في جامعة السوربون بفرنسا، وهناك بدأ نشاطه الإسلامي وسط الطلبة العرب والمسلمين، كما تعرف على جماعة الدعوة والتبليغ، ونشط معها في أوساط العمال المغاربة، حتى عاد إلى تونس سنة 1969، وباشر التدريس في ثانويات تونس العاصمة وحمام الأنف والقيروان، وفي هذه المرحلة كان صعود البورقيبية والتغريب كبيراً في الشارع التونسي.
لم يكن الغنوشي أو غيره من قادة الحركة الإسلامية الصاعدة في أواخر السبعينيات إلا جزءًا من الإيديولوجية العربية والإسلامية، التي تكونت في مواجهة الثقافة والهيمنة الغربية، وزاد من تمكنها صعود الخطاب الثوري العربي طوال فترة الخمسينيات والستينيات، حيث كان الإعجاب بجمال عبد الناصر رديفاً للإعجاب بسيد قطب، وربما فاقه في كثير من الأحيان.. وهنا نشير إلى أن الغنوشي قدِم إلى القاهرة في أكتوبر1964، والتحق بكلية الزراعة في جامعة القاهرة، ودرس بها حوالي ثلاثة أشهر فقط، قبل أنيصدر قرار الرئيس عبد الناصر،بتسليم الطلبة التونسيين لسفارتهم في مصر لإرجاعهم إلى بلادهم،بسبب الخلاف الذي بينه وبين الحبيب بورقيبة..ومع ذلك فإن الغنوشي كان معجباً في بواكيره، بالتجارب الثورية القومية التي جسدها عبد الناصر، وهو ما استمر فترة، حتى لقائه بعبد الفتاح مورو ذي المرجعية الإسلامية الزيتونية.
وتعد علاقة الغنوشي بمورو لحظة مهمة في سيرته الشخصية، حيث نشط كل منهما في دعوة الشباب، من خلال المقاهي والحانات والمساجد والمدارس والجامعات، ويعتبر لقاؤهما الفاتحة الحقيقية التي انتهت بتأسيس الحركة الإسلامية التونسية فيما بعد، ممثلة في الجماعة الإسلامية، التي بدأتإرهاصاتها عام 1970،قبل أن يشرع الغنوشي في كتابة المقالات بجريدة الصباح اليومية، وبمجلة جوهر الإسلام، لنقل أفكاره إلى أكبر شريحة ممكنة من المثقفين، ثم بمجلتي المجتمع والمعرفة، اللتان كانتا المنبر الفعلي للحركة الإسلامية، وتخصصتا في نقد الفكر اليساري والعلماني، كما كانت هذه العلاقة فصلاً مهماً في تحول الغنوشي عن إعجابه بالفكر القومي والعلماني نحو التوجه الإسلامي، وهو التحول الذي تأكد بعد عودته لتونس، فقد كان الحبيب بورقيبة من أكثر الزعماء صراحة في إعجابه بالثقافة الغربية، وكان أحياناً يعبر عن استيائه من الثقافة العربية، التي تشتمل ـ ضمناًـ بعض العقائد الإسلامية والدينية، وهو ما جعل الحركة الإسلامية هناك تنشط في مواجهة أفكاره.
يرى الغنوشي أن (التخلف الذي تردى فيه المسلمون منذ قرون، وأسلمهم الى الضعف وغلبة الأمم عليهم، وسبقها لهم في مجالات العلوم ونظم الحياة، يفرض إعادة التفكير في الإسلام باعتباره الشرط الضروري لكل تجديد وتطور في حياة المسلمين.. وفي هذا الصدد يكثر في أدبيات المصلحين منذ قرنين على الأقل، الاستئناس بالحديث الشهير الذي بشر فيه صاحب الدعوة، عليه السلام، بأن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها)، وهنايُفسير (المُجدد) فيهذا الحديث بأنه (جماعة) أو (مذهب) أو (مدرسة)، كما يمكن أن يكون (فرداً)، والتطبيق الأعرق لهذا (المُجدد) ـ في رأي الغنوشي ـهو اتجاه السلفية الجهادية، الذي مثله محمد بن عبد الوهاب في السعودية، ودعوة ولي الله الدهلوي في الهند، ويضم إليه المهدي السوداني، وتيارات الإخوان المسلمين، وآخرين غيرهم.. وهنا نُلاحظ أن الغنوشي، الذي كتب هذه الورقة عام 2002، لا يُفرق بين السلفية العلمية والسلفية الجهادية والسلفية الإصلاحية، ولكن يدمج الجميع في تيار واحد، صار الأشهر والمُعبر عنه ـ في نطره ـ هو (تنظيم القاعدة)!.
ويتضح موقف الغنوشي من العلمانية في كتابه (مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني)، الذي يقول فيه تحت عنوان (جاءتنا العلمانية على ظهر دبابة وبقيت تحت حمايتها)، ما يؤكد اتهامه لها: (سيلاقي المنافقون، من حكام العرب والنُخب العربية الملتفة حولهم، عنتاً شديداً إذا أرادوا أن يجعلوا لخطابهم ضد الحركة الإسلامية مصداقاً لدى الشعوب)؛ هذا (العنت) الذي ستواجههالأنظمة الحاكمة والنُخب العلمانية،ما لم يطبقوا الإسلام، كما تتصوره جماعات الإسلام السياسي، والذي يطلقه الغنوشي في وجه الجميع، هو الراديكالية الإسلامية في تشكيلاتها العنيفة المختلفة، لأنهم ـ أي الحكام والنُخب ـ ضد العروبة وضد الإسلام وضد الوطن وضد الشعوب!، رغم أن بعض هؤلاء عملياً كانوا من مؤيديه، وممن وقفوا ضد استبداد النظام البورقيبي بحركته، ولكنها الطبيعة الإخوانية في نفس شيطانها.
وهو يرى أن مهمة الحركة الإسلامية الآن، هي إقامة مجتمع أهلي إسلامي، عبر مبادرات أفراده بإقامة مؤسساته، وهو يثنى على تجربة محمد خاتمي في إيران، حين جعل مشروعه للحكم قائماً على إقامة مجتمع مدني إسلامي في ظل سلطة القانون، أي سلطة الشريعة، وهو ما ينقل مركز الثقل من الحاكم إلى المحكوم، أي أن المقدس هو الأفراد والجماعات، وليس غيرهم!!.. ويرُد الغنوشي انحدار أو تراجع المجتمع الأهلي الإسلامي إلى (تمكن الغزو الغربي من الإجهاز على نمط الدولة السُلطانية، التي ورثت الخلافة، بدءاً بتنحية سلطان الشريعة، وإبدالها بالقانون الغربي، كما حصل في معاهدة لوزان، التي فرضت على دولة تركيا التخلي عن الشريعة الإسلامية)!.
هذا غيض من فيض، عن سيرة وأفكار شيطان الإخوان في تونس، الذي هرب خارج البلاد لواحد وعشرين عاماً، فراراً من أحكام بالسجن المؤبد، بسبب تورطه في أعمال إرهابية، منها حرق عدة مراكز تعليمية وكيانات سياحية وخطف مسؤولين.. وحتى بعد عودته إلى تونس عام 2011، لم يتورع الجهاز السري لجماعته عن اغتيال عدد من معارضيه، ومنهم القياديين، اليساري شكري بلعيد، والقومي محمد البراهمي عام 2013.. وهو حديث الإسبوع القادم.