” يا مدرستي يا مدرستي” قصة قصيرة كتبهامحمد فيض خالد

غدا أول أيامي في المدرسةِ، ورغم ما يداخلني من اشتياقٍ ، إلا أن هاجسا يحومُ من حول رأسي ، بدأت خيالات ما تؤرقني في أيامي الأخيرة ، سلبت النوم من عيني ، لكني على كُلٍّ تحاملت على أحزاني ، جهزت حذائي البلاستيكي الأبيض ( البوت) حذاء أبناء القرى المُحبب في تلك الفترة ، وهو عنوان الأناقة، جهزت البيجاما الكستور المخططة ووضعتها بجانبي على أطراف المخدة ، أمّا الحقيبة فقد اخبرتني أمي أنّها سوف تجهزها لي فور استلامي الكتب فلا داعي للقلقِ.
ومعروفٌ بين أبناء بلدنا والبلاد المجاورة _ ذاك الزمان _ أن حقيبة المدرسة كيس من القماشِ ، يذهب بهِ المرء إلى دكانِ خياط القرية الشهيرالأسطي عبدالله الخياط  الذي يفصل ملابس الرجال والنساء على السواءِ، يقوم الرجل بتظبيط الكيس ، يثنيه ويقصّه إذا لزم الأمر ، بل وتهيئته حسب عمر التلميذ وحجم كتبه.
اعطتني أمي قرش صاغ، امسكت بهِ بين يدي في نشوةٍ بالغة ، وكأنّها المرة الأولى التي احصل فيها على نقدٍ ، لا اتركه من يدي حتى في منامي ، اطالعه أثناء رقادي بين طيات الظلام ، ثم احكم قبضتي عليه ، فلهذا القرش مذاقا خاصا يختلف عن سابقيهِ، وبعد العشاء قامت أمي فوضعت طشتا في غرفةٍ منعزلة كنا نتخذها مكانا للاستحمام ، كبقيةِ بيوت قريتنا في ذاك الزمان ، مررت الصابونة الكبيرة التي تُشبه الحجر فوق رأسي ووجهي في صمتٍ ، لأولِ مرة لا اشعر بالضيقِ من صلابتها التي تُدمي جسدي ، في هذه المرة ما يحبب الاستحمام إلى نفسي ويزينه في عيني ، اسكب الماء من الحلّةِ النحاس الكبيرة المُلاصقة للطشتِ، بكوزٍ بلاستيكي أحمر لا زلت اذكره ، ثم افرك الصابونة بقوةٍ فوق ( ليفة) النخيل الخشنة، احضرتها منذ أيامٍ خصيصا من نخلتنا ، وبيطئٍ وتمهل احكّ جسدي النحيف بها ، ثم اُعيد الكرة بعد الكرة ، وأنا ادندن بأغاني الطفولةِ ، وكأنّي عريس جديد جهزوه يوم زفافهِ ، وعمّا قريب سيذهب لاحضارِ عروسه .
وبعد ذلك ، تناولت عشائي وذهبت للنومِ في سلامٍ ودون مناهدةٍ مع أمي ، التي اعتادت توبيخي على تأخري خارج البيت للعب حتى منتصف الليلِ ، عادت لرأسي أحلام المدرسة تصحبني حتى فراشي ، إنّها تراودني دون انقطاعٍ ، اشعر بهمساتها وطنينها الذي يشبه طنين النحل ، لكنه وعلى كُلّ حالٍ ما تمنيت.
كان عليّ أن استيقظ مُبكِرا ، فلابد وكما ساد العُرف ؛ أن ألحق بجماعةٍ الكبار من أبناءِ القرية ، وهي جماعة أغلبها ممن سبقني بأعوامٍ للمدرسة ، أوصاني بعض الرِّفاق ومن قبل أمي ، أن السّير في صحبتهم أمانٌ من متاعبِ الطريق ومجاهلهِ، التهمت ( طاسة) ملئتها أمي باللبنِ المغلي المُحلى بالسكر ، وفتات ( البتاو) اليابس ، وهذه أكلة الصّغار المفضلة في الرّيف منذ عهود الأقدمين.
انتظرهم عند مدخلِ القرية ، انتظرت طويلا فأنا لا اعرف الوقت ، جاءوا أخيرا ، شلة كنت اعرفهم بل كنت اتحاشاهم حتى في اللعب ، فكيف سيصبحوا من بعد اليوم ِزملاء الطريق ، يالحسرتي..!
سبقتهم ضحكاتهم التي كشفت عن تعود ولا مبالاة واستخفافٍ بالأمرِ، فالرِّفاق على ما يبدو قد ألِفوا الحكاية ، وليس لديهم ما اشعر بهِ من رهبةٍ ، انتزعت الجدية من قلوبهم ولا يحسبون للأمرِ حسابه.
سرنا جميعا فوق الجِسرِ التُّرابي ، الذي تظلّه أشجار السّنط الكثيفة من كل جانبٍ، الوقت لا يزال مُبكِرا ، فآثار أقدام الطيور من كُل جنسٍ ، منطبعة فوق وجهِ التُّرابِ الذي بللته قطرات الندى ، المتساقطة في جنحِ الليل ، دلالة على أن أحدا لم يسلك هذا الطريق من أولِ الليلِ.
لا يكُف الكبار عن مزاحهم السّخيف ، ولا تنقطع فوضاهم المزعجة لحظةً، ففي فترات ما يتطوّر الأمر إلى تشابكٍ بالأيدي إذا لم يجدي التلّاسن ، وقد يصل الأمر إلى معارك حامية الوطيس ، تنشب فيها المخالب في الوجوهِ ، وتسيل الدماء من الشفاهِ ، وتمزّق الملابس وتغبّر الوجوه من ترابِ السِّكةِ، عندها يتعصّب كُلّ فريقٍ لفريقه من أبناء قرابته أو حتى من سكانِ شارعه ، اقف في وسطِ الصغارِ مكتوف الأيدي تتملكني الحيرة والانزعاج ، اتسائل أهذه هي حياة المدرسة ، وهذا شكل رحلتي كل صباحٍ ؟!
لكن ما علينا فعله نحن الصّغار ، أن ننتظر ما ستسفر عنه المعركةِ التي ما إن تهدأ حتى تشب من جديد لأتفهِ الأسباب ، سرعان ما يعود الصّحب سريعا لسيرهم وسيرتهم الأولى ، بعد أن تلاحقهم زخّات المياه التي يقذفها ( الرشاش) الذين كلفته مصلحة الطرق ، برشِّ الطريق عند كُلّ صباحٍ حتى تستقر تربته وتهدأ ثائرة غباره، في الغالبِ يتخذ الواحد من هؤلاءِ مكانا أسفل حافةِ الجِسرِ، ثم يملأ ( الجردل) من الترعةِ ويرمي بهِ دون وعيٍ ، ودون أن يتنبّه لحركةِ المارة ، وهذا الفعل تسبّب للعمالِ في كثيرٍ من المآرقِ، بل والمشاكل مع المارةِ، كثيرا ما شهدتها فيما بعد ، خاصة وأن هذا الطريق هو ممر الفلاحين الوحيد ، الذي يسلكون وصولا لحقولهم برفقةِ دوابهم ومواشيهم .
نعود للسيرِ من خلفِ العصابةِ، التي لا يكفّ كُلّ عنصرٍ منها عن التنمّرِ بصاحبهِ، بأن يضع قدمه من أمامهِ ، ثم يحاول اسقاطه فوق التّرابِ واضحاك الرِّفاق عليهِ.
تبدو الطريق طويلة أكثر مما تخيّلت ، فالقوم في هرجهم واشتباكاهم الذي لا ينتهي ، أمّا أنا فهمي هم، لا افكر إلا في المدرسةِ، كيف ساقضي أول أيامي في هذا العالم الغريب الذي لا اعرفه ، هذا العالم الذي ادخله وحيدا ولم اخالط أهله ، كيف سأكمل فيهِ حياتي منتقلا من قريتي ، اقطع كُلّ هذه المسافة ، لأعود عند الظهيرة بعيدا عن أمي وإخوتي وبيتنا ودربنا ، اعترف بسطوةِ الكبِار علينا طِوال هذه الفترة ، فرضت علينا الوصاية كاملة ، وليس لنا من أمرنا إلا السّمع والطاعة ، أن نستمع لتوجيهاتهم ، وألا نشذّ عن العُرف السّائد بين أبناء القرية منذ أول طالب سلك هذا الطريق من قريتنا، يردد هؤلاء الأوغاد مقولتهم الممجوجة ، في تباهي وخيلاء : إللي يكبر عنك بيوم يعرف عنك بسنة.
هكذا حفظناها ، وهكذا طبقناها ، لا مانع من احمل عن أحدهم بعض أغراضهِ، وفي مراتٍ ما احمل قطعا من ملابسهِ، وقد يتطور الأمر فاحمل عنه الحذاء الذي لا اطيق في الأساس رائحته العفنة، لا املك الاعتراض وليس لي حق الممانعة أو الاحتجاج على هذه السخرة، وإلا يطبّق عليّ قانون العزل ، فيكون مصيري السّير بمفردي في هذا الدّربِ المجهول _ حتى الآن _ وعلى نفسها جنت براقش .
نصل القرية المجاورة ، علينا الآن عبورَ الكوبري الكبير . الواصل بين جانبي الطريق فمكان المدرسة على الجانبِ المُقابلِ ، وعلى مدخلِ الكوبري ، يقف أبناء القرية ينتظرون القادمين من الأغرابِ ، غالبا ما يشهد الاسبوع الأول هذا الصِّدام ، هو أشبه باستعراضِ العضلات من أصحابِ المكان ، انتظار مع سبقِ الإصرارِ والترصّد ، سرعان ما تبدأ وصلات الترحاب بالضيوفِ الجُدد ، عرفت لاحقا بأنهّا عادة ، واختبار اشبه باختبارِ القدرات لابد وأن تمرّ بهِ، عرفه الكبار قبلنا بل واجتازوه .
يبدأ الأمر بشتائمٍ عادية، ثم يتطور لحدِّ الاستهزاء بِنَا وبقريتنا ، ثم يشتد وقعها فتتطور إلى مدِّ الأيدي بالمضايقةِ والضرب ، بل قد يتهوّر البعض فيحاول منعنا صراحة من العبورِ فوق الكوبري ، يقسم برقبةِ المرحوم ابيهِ أن من يعبر؛ سيُلقي بهِ من فوق الكوبري ، يُسارِع في تأكيد كلامه وادخال الخوف قلوبنا بشيءٍ عملي ، ينتزع بعض الأغراضِ من أقلّنا بنية ويُلقي بها إلى الماءِ، نشاهد ما يجري بحسرةٍ وأسف مكتوفي الأيدي ، وندمٍ لا نملك معه إلا الدعاء أن تتحنّن السّماء علينا فتُرسل إلينا نجدة ، تغيثنا من هجمة قطاع الطريق .
في بعضِ الأحيانِ ما تُجرى مفاوضات ، يتلطّف البعض منّا ويتودد إليهم ، فهو يعرف فلان الفلاني من نفسِ البلد تربطه بهِ علاقة قرابة ، في مراتٍ يرضخ هؤلاء لأجل خاطرهِ ، وفي أحيانٍ يزداد عنادهم .
لكن العناية الإلهية ترُسل إلينا نجدتها الفورية ، فقد تصادف قدرا مرور أحد الأساتذة ، في طريقهِ للمدرسةِ عندها يكفّ قطاع الطريق أذاهم ، ويرفعوا أيديهم عنّا ، نلتف من حولهِ ونسير في سلامٍ ، وعيون القوم تأكلنا غيظا ، وترسل إلينا نظرات تهديدٍ ووعيد ، وألسنتهم الحِداد تتوعد لصباحِ غدٍ ، وإن غدا لناظرهِ قريب .
عرفتُ من الأصدقاءِ ، أن أغلب المتربصين فوق الكوبري ليسوا من منتسبي المدرسة، بل أكثرهم من جملةِ المشرّدين ، الذين أُلقي بهم في الدّروب بعد أن فقدوا عائلهم ،طُلِّقت الأم وتزوجت في قريةٍ بعيدة ، فضّلت بقاء الصّغير عند أبيهِ الذي تزَوج بأخرى ، فاطلقت زوجته الصغيرَ فريسة تنهشها الضياعِ ، ويفترسها التسكّع والتشرّد .
يستمر الشّحن على مدى الأسبوع الأول من كُلّ عامٍ ، لعلّ هذه الحوادث المُزعجة ، هبة من اللهِ تعالى ، حين استطعت كشفَ زيف الأوصياء ، وهشاشة شخصيتهم ، ممن اعتقدنا زيفا الأمان في كنفهم ، أنا وغيري من أبناءِ القرية الجُدد ، ليُصبح _ لاحقا _ شجارهم المزيف طوال السِّكةِ وعراكهم شيئا باهتا ، فعند أول ِ صدامٍ حقيقيٍ تبخّرت شجاعتهم ، رضوا بالإهانةِ وأن تُسب قريتهم .. فمن الآن لا وصاية علينا لجبانٍ.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.