بعد مرور عشرات السنوات، يشرع التاريخ في نظم فصوله، سارداً أبرز أعمال الزعماء، مثلما وصف محمد علي بأنه مؤسس نهضة مصر، في العصر الحديث … ولكن التاريخ لم ينتظر ليذكر الرئيس عبد الفتاح السيسي بوصف فارق، ودقيق، بأنه من خلّص مصر من حكم الإخوان، عندما انحاز، والقوات المسلحة المصرية، لثورة الشعب المصري، في 30 يونيو 2013، رغبة في التخلص من حكم الإخوان. وقد تناولت الكثير من الأقلام تلك الثورة، الشعبية المجيدة، من مختلف زواياها، فرأيت أن أعرض على سيادتكم، اليوم، نبذة من كواليس ما حدث في الولايات المتحدة، لتقييم يوم 30 يونيو.
في عام 2014، زرت الولايات المتحدة الأمريكية، للقاء عدد كبير من أعضاء الكونجرس الأمريكي، ممثلي الحزبين الجمهوري، والديمقراطي، كان منهم، على سبيل المثال، السادة دانكن هانتر، وجو ويلسون، ودوتش روبرسبرجر، والسيدة كاي جرانجر، كما طلبت عقد لقاء مع أحد مجموعات “Think Tanks”، في واشنطن، سواء تلك التابعة للمخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، أو التابعة لوزارة الخارجية، أو التابعة لوزارة الدفاع (البنتاجون)، أو مجموعة البيت الأبيض الخاصة بالرئيس الأمريكي، حينها، أوباما، فتم تحديد الموعد مع مجموعة الرئيس أوباما، لمدة ساعة ونصف الساعة، يخصص نصف الوقت لزيارة المبنى والتعرف على مكوناته، والنصف الآخر للقاء المجموعة برئاسة السيدة مادلين أولبرايت، وزير الخارجية، في عهد الرئيس الأمريكي، الأسبق، بيل كلينتون.
حان موعد لقاء السيدة مادلين أولبرايت، الذي بدأ بتقديم أعضاء المجموعة وعددهم 17 خبيراً، من مختلف المجالات، العسكرية، والسياسية، والقانونية، وخبراء الأمن القومي، ولم أندهش لوجود دكتور علم النفس بينهم. كان جدول أعمال الاجتماع مقسم إلى 15 دقيقة لكلمة السيدة أولبرايت، يليها 15 دقيقة أخرى لكلمتي، على أن تخصص 15 دقيقة الأخيرة للنقاش مع باقي الأعضاء؛ فبدأت السيدة أولبرايت حديثها بأن الأسابيع المنصرمة كانت من أهم فترات المجموعة، إذ كلفهم الرئيس أوباما بأهم موضوعان يخصان السياسة الخارجية الأمريكية، في الفترة اللاحقة، واللذان ستتخذ الولايات المتحدة عدداً من القرارات المصيرية بشأنهما. الموضوع الأول أحداث البلقان، والتصعيد الروسي تجاه شبه جزيرة القرم وأوكرانيا، أما الثاني فكان سؤالاً، مباشراً، من الرئيس أوباما، لتوصيف ما حدث في مصر تحديداً، “هل كان انقلاباً عسكرياً، قام به الرئيس السيسي لإزاحة الإخوان من السلطة؟ أم كانت ثورة شعبية، أيدها الجيش وساندها؟”، مضيفة أن اعتبار ما حدث في مصر انقلاباً عسكرياً، سيكون له تبعات خطيرة طبقاً للدستور الأمريكي.
واستطردت، بأنها اطلعت، أولاً، على الورقة البحثية التي قدمها الرئيس السيسي، عندما كان طالباً، في الولايات المتحدة، فوجدتها دراسة عن الديموقراطية في دول العالم الثالث، ثم أضافت أنها تابعت أول قرارات الرئيس السيسي، بعد توليه الحكم، برفع الدعم عن المحروقات، وهو القرار الذي تأخر لأكثر من 40 عاماً، خوفا من الاعتراضات الجماهيرية، مما أكد لها أنه “Reformer”، أي إصلاحي، وكررت الكلمة أكثر من مرة، فلو كان قادماً على رأس انقلاب عسكري، لحاول استمالة الشعب، بقرارات شعبوية. والأهم من ذلك، أن الشعب وافقه على قراراته، رغم صعوبتها، مما أكد لها، وللمجموعة، أن ما حدث في مصر ثورة شعبية، انحاز لها الجيش، وهو ما رفعته، لاحقاً، في تقريرها النهائي للرئيس أوباما.
عندما حان دوري في الكلام، كنت متيقناً أن هذه المجموعة على علم، تام، بتفاصيل ما حدث، فأضفت كلمة واحدة، مفاداها أنه حتى في أعتى الديمقراطيات، يتودد الرئيس إلى الشعب، خلال فترة رئاسته الأولى، بقرارات شعبية، تضمن إعادة انتخابه لفترة رئاسية جديدة، يتخذ فيها القرارات الصعبة، قبيل رحيله عن الحكم، أما الرئيس السيسي فيهدف إلى الإصلاح، منذ اليوم الأول، غير آبه بشعبيته، لإيمانه بأن قراراته تصب في صالح البلاد، حتى وإن لم يشعر العامة بأهميتها، في المدى القصير.
وانتهي اللقاء الرسمي، وتقدمنا نحو طاولة جانبية، رُصت عليها الحلوى الأمريكية الشهيرة، الدونتس، وبينما نتناول القهوة، تحدثت السيدة أولبرايت بحرية أكبر،من بعيداً عن الرسميات، فبدأت حديثها بأنها استعدت لاجتماعنا المشترك، بالقراءة عن تاريخي العملي، سواء في الحياة العسكرية أو المدنية، وعلمت أنني كنت أول محافظ للأقصر، متمنية أن تزور مصر يوماً، بغرض السياحة، لمشاهدة آثارها، التي درستها منذ الصغر، كمهد الحضارة، وفجر التاريخ، وأن تقوم برحلة نيلية، التي سمعت عنها من أصدقائها، كأجمل الرحلات. واختتمت السيدة أولبرايت، حديثنا الجانبي، قائلة “إن بلادكم عظيمة، وتستحق أن تقود العالم العربي، والإسلامي، فلديكم جميع مؤهلات القيادة، ولكن ينقصكم خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي”.
ولعل هذه السيدة كانت تقرأ الطالع، فلقد كان أحد أهم إجراءات الرئيس السيسي، بعد ذلك، هو خطة الإصلاح الاقتصادي، والتي تقبلها الشعب المصري، رغم قسوتها، والتي لولاها لما استطاعت مصر مجابهة الأزمات، مثل أزمة كورونا، الحالية. والحقيقة أن تلك الدقائق الخمس، التي تلت مناقشة الموقف المصري، خلال الاجتماع الرسمي، كانت كفيلة بأن تجعلني أُعيد النظر في رأيي عن هذه السيدة، بل وأغيره، دون غضاضة، لأجزم بأنها استحقت أن تكون أول سيدة تتولى هذا المنصب، في الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما لاحظت ذكاءها الواضح، وقدرتها على التركيز، والتحليل، وإذا تحدثنا خارج الإطار الرسمي، فهي إنسانة ودودة للغاية، تشعر معها وكأنك قابلتها منذ فترة طويلة. وتبادلنا كروت التعارف، ولكن لم تتح لنا الظروف أن نتواصل بعد هذا اللقاء … المهم أن ذلك هو الفكر الأمريكي حول أحداث ثورة 30 يونيو، التي سيخلدها التاريخ، كذكرى خلاص مصر من حكم الإخوان.