لواء دكتور سمير فرج يكتب : سد النهضة … ما له وما عليه

استقبل الشعب المصري، ببالغ الاستياء، البيان الصادر من وزارتي الخارجية والمياه الأثيوبيتين، والمتضمن عزم أثيوبيا على المضي في ملئ خزان سد النهضة، بالتوازي مع الأعمال الإنشائية للسد، دون انتظار للتوصل إلى اتفاق مع دول المصب، مصر والسودان. جاء ذلك البيان، الصادم، بعد تغيب أثيوبيا عن جولة المفاوضات، التي عقدت في واشنطن يومي 27 و28 فبراير 2020، والتي كان من المفترض أن تكون الجولة النهائية للمفاوضات، التي استمرت على مدار خمس سنوات، وتكثفت في الأربع شهور الأخيرة، بعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية، والبنك الدولي، كوسيطين، وراعيين، دوليين، لتلك المفاوضات المضنية.
أظن، كما يظن الكثيرون، أن أثيوبيا تعمدت، بغيابها، إعاقة مسار المفاوضات، في ظل ادعاؤها بالحاجة إلى المزيد من الوقت، لدراسة هذا الأمر الحيوي، رغم انخراطها في المفاوضات، طيلة السنوات الماضية، حتى التوصل، طوعاً، إلى اتفاق، كان من المقرر توقيعه في تلك الجولة الأخيرة من المفاوضات، يتضمن الجدول الزمني لعمليتي ملء السد، وتشغيله، وكذلك القواعد الحاكمة للتعامل مع الجفاف، والجفاف الممتد، والسنوات الشحيحة الأمطار، بما يضمن الحفاظ على مصالح مصر والسودان، كدول المصب. ويعد الإعلان الأثيوبي، الأخير، بالبدء في ملء الخزان، قبل الاتفاق النهائي، مع مصر والسودان، مخالفاً للقوانين، والأعراف، الدولية، وخرقاً، صريحاً، لاتفاق إعلان المبادئ، الذي وقعت عليه الدول الثلاث، في 23 مارس 2015، وينص في مادته الخامسة، على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء، وتشغيل، السد، قبل الشروع في عملية الملء، التزاماً بتجنب الإضرار بمصالح دول المصب.
ورغم الادعاءات الأثيوبية، طوال السنوات الماضية، بأن مصر لن تتضرر من بناء سد النهضة، وتصريحات رئيس وزرائها بأن مصر ربما تستفيد، وتزيد حصتها، بعد تشغيل السد، إلا أنها، في الواقع، رفضت إثبات ذلك، والتعهد بضمان الحفاظ على تدفقات النيل الأزرق، مستقبلاً، عند مستواه، الحالي، البالغ 50 مليار متر مكعب، سنوياً، بل ورفضت حتى التعهد بالحفاظ على مستوى تدفق 40 مليار متر مكعب، سنوياً، رغم موافقة مصر والسودان على التضحية بعشرة مليارات متر مكعب، تخصم مناصفة، من حصتيهما، حتى الانتهاء من فترة الملء الأول، على أن تعود التدفقات كاملة بعد ذلك. وأخيراً، تغيبت، عمداً، عن جلسة المفاوضات النهائية، التي عقدت في واشنطن، وأعقبت ذلك بإصدار بيانها بالبدء في ملء خزان النهضة. وفي تصعيد جديد، منذ يومين، خرج علينا وزيري الخارجية، والمياه، الأثيوبيين، بمؤتمر صحفي، أعلنا خلاله أن بلادهما ستبدأ في ملء خزان سد النهضة بعد أربع شهور من الآن، مضيفاً، “الأرض أرضنا، والمياه مياهنا، والمال الذي يبنى به سد النهضة مالنا، ولا قوة يمكنها منعنا من بنائه”، متجاهلاً حقيقة أن تلك الملكية، لا تجيز له التنصل من الاتفاقات الدولية، الموقع عليها مع بلاده!
في المقابل، فإن مصر التزمت، طوال سنوات المفاوضات الخمس، وعلى مدار الشهور الأربع، الماضية، برعاية أمريكا، والبنك الدولي، بنهج سياسي، ودبلوماسي، يضمن حقوق الشعب المصري، ولا يمس بحقوق الأشقاء. فقد أعلن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ البداية، احترام مصر لحق أثيوبيا في بناء دولتها الحديثة، وإحداث التنمية الاقتصادية المنشودة، بل وأكد سيادته على استعداد مصر للمساهمة في تلك النهضة الاقتصادية، بضخ استثمارات في أثيوبيا، ومعاونتها في تأسيس بنيتها التحتية، والتعاون معها في مد، وانشاء، شبكات الكهرباء، التي سوف ينتجها سد النهضة، حفاظاً على العلاقات الإقليمية، والدولية، التي تجمع الدولتين، وعلى أساس ألا تجور أثيوبيا على الحقوق التاريخية، لمصر، وسكانها البالغ عددهم 100 مليون نسمة، في بلد صحراوي، يعيشون على 7%، فقط، من مساحة أراضيه، الواقعة على ضفاف نهر النيل، الذي هو شريان الحياة، ومصدر الرزق لكل المصريين.
واتساقاً مع النهج السياسي، التزمت مصر بالمشاركة، بوفد رفيع المستوى، في كافة جولات المفاوضات، ورحبت بالرعاية الأمريكية، ووساطة البنك الدولي، على مدار الأربع شهور الماضية، أعادت خلالهم طرح مطالبها السلمية، التي تضمن الحقوق المصرية، بما لا يجحف أثيوبيا حقها في البناء، والتنمية، ومن خلال تلك الاجتماعات المشتركة، والمكثفة، بحضور السودان وأثيوبيا، تمكنت الولايات المتحدة، والبنك الدولي، من بلورة اتفاق، يتضمن أحكاماً، ومواداً، تمثل حلاً وسطاً، وعاجلاً، يضمن المحافظة على حقوق الأطراف الثلاثة. ورغم تغيب أثيوبيا عن تلك الجولة من المفاوضات، التي كان من شأنها وضع إطار قانوني منظم لتلك القضية شديدة الحساسية، ورغم إحجام السودان عن التوقيع على ذلك الاتفاق، فقد حرصت مصر على التوقيع عليه، بالأحرف الأولى، في تأكيد، آخر، على التزامها بالطرق السياسية، ولتضع باقي الأطراف أمام مسئولياتهم الدولية، وهو الإجراء أثنى عليه الرئيس الأمريكي ترامب، في مكالمته الهاتفية، للرئيس السيسي، منذ يومين، مؤكداً على تقديره لدور مصر، والتزامها بالتوقيع، بالأحرف الأولى، في دلالة، جديدة، عن توفر النية الحسنة، والإدارة السياسية الصادقة، للوصول إلى حل سياسي.
أمام تلك المماحكات السياسية، دار في أذهان عموم الشعب المصري، عدة أسئلة، بديهية؛ أين ذهبت وعود رئيس الوزراء الأثيوبي، بعدم مساس سد النهضة بحق مصر التاريخي في مياه نهر النيل؟ ولماذا تغيبت أثيوبيا عن الاجتماع الأخير، رغم اطلاعها، ومشاركتها، في صياغة بنود الاتفاق، المقرر توقيعه؟ هل تقبل الولايات المتحدة الأمريكية، أن تضعها أثيوبيا في ذلك الموقف الدولي المحرج، بعد رعايتها للمفاوضات، وحث الرئيس ترامب، لرئيس الوزراء الأثيوبي، آبي أحمد، على المضي قدماً في المفاوضات، للوصول إلى حل نهائي، يحقق مصالح جميع الأطراف المعنية؟ ولماذا أحجم السودان عن التوقيع على الاتفاق، مثلما فعلت مصر، رغم أن بنود الاتفاق تضمن الحفاظ على حقوقه، التي قد تهدرها أثيوبيا؟ كيف ستواجه الإدارة السودانية، الرأي العام السوداني، بتفريطها في حقوق شعبه، من أجل مغامرات سياسية، غير محسوبة العواقب؟ هل ستصدر الإدارة الأمريكية، والبنك الدولي، بياناً رسمياً يوضح الحقائق، للرأي العام الدولي، بشأن الأطراف المتعنتة؟ وما هو الإجراء الرسمي الذي ستتخذه الإدارة الأمريكية، والبنك الدولي، في حال عدم التزام أثيوبيا ببيانها الرسمي، الذي أكد أنه لا ينبغي إجراء التجربة النهائية، وملء خزان سد النهضة، دون التوصل إلى اتفاق بين إثيوبيا ومصر والسودان؟
ومع ذلك، ورغم ما يعلو الموقف من غيوم سياسية، إلا أنني متفاءل بالمستقبل، ليقيني، التام، من أن مصر لن تفرط في حقوقها المائية، التي تعتبر مسألة حياة لشعبها، كما وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي، ولثقتي، البالغة، في قدرات المفاوض الدبلوماسي المصري، ولنا في مفاوضات طابا، عبرة، ولإيماني، المطلق، بتوجيه الإدارة السياسية، لكافة أجهزة الدولة المصرية، للاضطلاع بمسؤولياتها الوطنية، في الدفاع عن مصالح الشعب المصري، ومقدراته، ومستقبله، بكافة الوسائل، كما ورد في بيان الخارجية المصرية.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.