كثيرة هى الدلالات التى تكشف عنها تداعيات وفاة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك وهذا التعاطف الكبير على المستويين الرسمى والشعبى, هذه الحالة من الحزن لوفاة الرئيس وهذه الحالة من التقدير الكبير لشخصه وللدور الذى قدمه على مدار سنوات حياته ضابطا فى القوات المسلحة المسلحة المصرية ثم أحد قادتها ثم رئيسا للبلاد على مدار 30 عام, كعادتها مصر دائما تعطى الدروس والعبر للآخرين, مصر تؤكد دائما وأبدا أنها حقا أم الدنيا وهى تستحق ذلك وعن جدارة .
لاتناقض فى المشهد المصرى, لاتناقض بين فبراير عام 2011 وبين فبراير عام 2020, لاتناقض حقيقى بين الغضب والحب كلاهما مكونان أساسيان للشخصية المصرية وكلاهما يعبران عن مكنونها وثرائها وتفاعلها وديناميكيتها, لاتناقض بين محاكمة الرئيس الأسبق وكيل الاتهامات له وبين حالة الحب لشخصه التى تجسدت على كل المستويات الرسمية والشعبية وعبر مساحات الإعلام المصرى المقروء والمرئي وكل قنواته وفضائياته وكذلك السوشيال ميديا وقنوات التواصل الاجتماعى, لاتناقض بين صرخات الغضب التى انطلقت من حناجر الثوار ونهنهة الباكين حزنا على فراقه, الحالة واحده وهذه هى خصوصية مصر التى تميزها عن غيرها, مصر التى تثور وتغضب ومصر التى تغفر وتعفو وتسامح, مصر التى تبحث عن الجديد وعن المستقبل ومصر التى تقدر حجم العطاء الذى قدمه رئيس بحجم مبارك وحجم الدور الذى بذله, مصر التى تثور على الجمود والاحتكار والاستئثار بالسلطة وتبحث عن الحرية والتعددية والانطلاق ومصر التى لاتنسى ولاتنكر ولاتتجاهل.
ميارك الذى ثار عليه المصريون هو نفسه مبارك الذى بكاه المصريون, وهذا هو موطن الجمال فى الشخصية المصرية التى أبهرت العالم فى فبراير 2011 وأبهرته أيضا فى فبراير 2020, هذا هو موطن الإبداع فى المشهد السياسى المصرى أو بمعنى أدق فى الحالة المصرية التى تنفرد بها مصر عن جميع دول العالم, تقدير على المستوى الرسمى حظى به مبارك عبرت عنه بوضوح الجنازة الرسمية العسكرية المهيبة التى كانت عنوانا على مدى تقدير الدولة المصرية للرئيس مبارك وللدور الذى قدمه, وتقدير على المستوى الشعبى عبر عنه هذا التعاطف وهذه الألسنة التى انطلقت بالدعاء وطلب الرحمة والمغفرة له عبر قنوات الإعلام المصرى ومساراته والسوشيال ميديا,كانت الجنازة العسكرية والتعاطف الشعبى عنوانا لمعدن أصيل وقيمة عظمى متأصلة فى الفكر السياسى المصرى وفى الشخصية المصرية من أدناها إلى أعلاها من أبسط مواطن إلى شخص رئيس الجمهورية وهو معدن الوفاء الذى يقل وجوده حاليا بل يندر وجوده حتى فى أكثر دول العالم تحضرا والتى قامت على أرضها حضارات قديمة وحديثة وعبر أزمنة مختلفة.
الحب الذى أحاط به المصريون مبارك وهم يودعوه إلى مثواه الأخير لم يأت من فراغ فمبارك الذى ثار عليه المصريون بسبب حالة الجمود التى شهدتها مصر خلال آخر دورة رئاسية له وتزييف إرادة الناخب المصرى وإحتكار الحياة السياسية لحزبه وتجاهل نداءات التغيير والإصلاح فكانت الثورة حقا أصيلا لهذا الشعب ورفضا للخنوع ورغبة جامحة للعبور إلى المستقبل وبناء الدولة المصرية الحديثة, هو نفسه مبارك الذى أعاد بناء القوات الجوية المصرية بعد هزيمة يونيو وخصوصا بعد أن تولى رئاسة الكلية الجوية فقام بإعداد جيل من الطيارين الأكفاء فى وقت قياسى, ثم قيادة القوات الجوية قبيل حرب أكتوبر وهو من قاد الضربة الجوية القاسمة الحاسمة التى مهدت لأعظم نصر فى تاريخ مصر, النصر الذى أعاد لها كرامتها وأرضها وكبريائها, وهو من حافظ على كامل التراب المصرى ورفض التنازل عن شبر واحد من الأرض المصرية وموقفه من قضية طابا خير مثال وخير دليل على ذلك فكان قراره اللجوء إلى التحكيم الدولى عندما رفضت إسرائيل الإنسحاب منها وعندما سألوه ماذا لو لم تلتزم إسرائيل بحكم التحكيم الدولى قال مقولته الشهيرة “لكل مقام مقال”.
ومبارك على مدار 30 عام رفض إقامة قاعدة عسكرية واحدة لأمريكا فى وقت كانت قواعدها تنتشر فى معظم دول المنطقة من تركيا إلى قطر مرورا بالعراق, وهو نفسه الذى رفض أن يهرب من مصر بعد اندلاع ثورة يناير ويستجيب لدعوات من دول خليجية بالإقامة فيها معزز مكرم وقال “عشت على أرض مصر وسأموت على أرضها” ولم يهرب كالذين هربوا ولم يناور كالذين ناوروا, وهو نفسه الذى حافظ على استقلالية وحيادية المؤسسة العسكرية وهى واحدة من أعظم ماتتميز به الحالة المصرية فلم يدخل الجيش المصرى فى صراعات سياسية ولم يدخله مبارك فى تحزبات أو صدام مع الشعب المصرى كما فعل غيره من الزعماء العرب مثل الرئيس اليمنى الراحل على عبد الله صالح والرئيس السورى بشار الأسد, محافظا على ولاء الجيش المصرى الأول للدولة المصرية وللشعب المصرى, تنازل مبارك عن السلطة طواعية حقنا لدماء المصريين وسلمها للمجلس العسكرى الجهة الوحيدة التى تستطيع الحفاظ على مصر وتحفظ أمنها وسلامها واستقرارها فظلت مصر آمنة موحدة مستقرة فى وقت كان الخراب والدمار والدم من نصيب دول مثل سوريا واليمن وليبيا بعد أن أكلت الحرب الأهلية فيها الأخضر واليابس .
مبارك الرئيس الذى أخطأ فى حق مصر والمصريين فى سنوات حكمه الأخيرة فثار عليه المصريون هو نفسه مبارك المقاتل والرئيس والإنسان الذى حافظ على مصر قوية موحدة مستقره وهو من حقن دماء المصريين فكانت الثورة وكان الحب وهذا هو الدرس المصرى الذى تقدمه مصر للعالم وهذه هى خصوصية مصر وهذه هى عبقرية الشعب المصرى.