كلما مررت من شارع مصر حلوان الزراعي ووقع بصري علي أطلال مصنع النصر للتليفزيون وقد تحول إلي حطام خربه تعلو مبانيه أسراب أبو قردان الذي كان صديق الفلاح وبعدما ذهبت الأراضي الزراعية والفلاح وشركة تصنيع التليفزيون فلم يجد أبو قردان إلا أكوام القمامة ليلتقط منها الديدان, وعلي طريقة فيلم تيتانك بطريقة الفلاش باك تتحول الصورة من سفينة خربة غارقة في أعماق المحيط إلي حياة كاملة بكل شخوصها وأبطالها, الحياة تبعث مجددا في مخيلتي داخل المصنع الذي أنشئ عام 1966 وتنتعش الذاكرة بمشهد من فيلم ” البنات عايزه أيه ” وسهير رمزي المهندسة الجميلة التي تمتلك سيارة ووظيفة وتعليم جيد وشخصية مستقلة, ترتدي البالطو الأبيض داخل ورش تصنيع التليفزيون وتتحدث عن شروطها من ضرورة أن يكون شريك حياتها بلا ماضي, فيلم كوميدي مع محمود عبد العزيز وسمير غانم وعدويه لكن به رسالة وبطرف خفي أشار إلي مرحلة هامه من تاريخ مصر ونهضتها الصناعية.
معظم أفلام تلك المرحلة كانت ترسخ لذلك المعني, فؤاد المهندس في فيلم عائلة زيزي يتفوق علي المهندسين الألمان ويعيد تركيب ماكينة الغزل المستوردة بشكل صحيح ومشاهد حية والماكينات والعمال يعملون باجتهاد, حتي مشاهد أستوديو مصر وحوار فؤاد المهندس وعقيلة راتب حول احترام الفن والفنانين وصناعة السينما, من ينسي ليلي مراد وهي تغني دور يا موتور في فيلم سيدة القطار, أو جولة رشدي أباظة مع لبني عبد العزيز هاميسس أخت أتيتاتون التي يعود نسلها إلي أتون إله الشمس وقد عادت للحياة لتثني بتاع الجاز عن حفر الآبار فوق المقابر الفرعونية, وتقوم بجولة في كل مصانع مصر, الحديد والصلب والسيارات والغزل والنسيج والزجاج في فيلم وفاء النيل, حتي فيلم النظارة السوداء تم تصوير معظم مشاهدة داخل أحد المصانع وتناول قضية التأمين علي العمال ضد المخاطر, فيلم حب وكبرياء لنجلاء فتحي ومحمود ياسين والذي مثلته من قبل فاتن حمامه ويحيي شاهين أو فيلم مراتي مدير عام مع شادية وصلاح ذو الفقار. من منا لم يتأثر بالقيم والعادات المصرية الأصيلة في معظم أفلامنا العربية القديمة من نظافة الشوارع وأتساعها وجمال مبانيها, ورقي لغة الحوار بين أبطالها قيم إنسانيه وأخلاقية ورسائل اجتماعيه ذات مضمون وهدف.
لن أتحدث عن الحالة الفنية وما وصلت له من تدني وإسفاف وتكريس لكل القيم والعادات السيئة, لكني سأتحدث عن اعترافات قاتل اقتصادي وهو الخبير الأمريكي جون بيركنز والذي نشر كتابه عام 2004 في 250 صفحة وهي مذكرات شخصيه ترجمت إلي 30 لغة منها العربية, عكف علي كتابتها نحو 20 عاما ولم ينشرها إلا عام 2004 بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بعد الهجوم علي برجي مركز التجارة الدولية ووزارة الدفاع الأمريكية.
لخص القاتل الاقتصادي الأسلوب الجديد للسيطرة علي دول العالم الثالث ليجعلنا في الحالة التي نحن عليها الأن, نظام مالي يجعلنا سجناء وأبنائنا مدينون يركزون علي المال والأشياء المادية وينسون القيم, وكيفية استخدام معادن ومواد تسرع الشيخوخة ومهدئات في الأكل والماء والهواء حتي نصاب بالزهايمر وتدمير العقول, استخدام الإعلانات والموسيقي لجذب الأطفال للسكريات والأكل الضار واختراع أدوية تجعل الصحة أكثر تدهورا, ونصبح مكتئبين وبدناء مشغولين بالملذات وألعاب الفيديو, واستخدام الخوف كسلاح, قال…. سنجعلهم يتقاتلون حتي نكمل مشروعنا الأسمي سنجعلهم يعيشون في خوف وتذمر دائم بفضل الصور والدم في وسائل الإعلام.
القاتل الاقتصادي قال إن أول بلد كانت مسرحا للمخطط الأمريكي الخبيث كانت إيران عام 1953 حين أراد روزفلت القضاء علي مصدق واستبداله بالشاه لخوفه من نهضة حقيقيه كان سيقوم بها مصدق فذهب إلي ايران بأموال كثيرة اقنع بها الشباب القيام بمظاهرات تبدو شعبيه وحدث ما خطط له بأقل ثمن يمكن دفعه.
تحدث عن دورة في إندونسيا والكويت والإكوادور وتشيلي وجواتيمالا وكيف يتعلمون في كليات الاقتصاد كيف يفقرون الشعوب ويقضون علي القيم والأخلاق بشتي الوسائل وعلي رأسها الإعلام والفن والموسيقي تلك الأسلحة الرهيبة, التي شكلت وجداننا وقدمت مشهد في فيلم كوميدي لمهندسة في مصنع تليمصر تحول بفعل القاتل الاقتصادي إلي أطلال يعلو جدرانه المتهالكة أبو قردان يلتقط الدود من القمامة المتراكمة حول أسوار كان خلفها حكاية شعب يصنع نهضته.